الجهة الاُولیٰ : فی بیان ما ینبغی أن یبحث عنه فی المقام
قد تعارف بینهم تعریف المطلق والمقیّد أوّلاً، ثمّ توضیح النسبة بینهما وتقابلهما ثانیاً، ثمّ البحث عن أنّهما هل یکونان واقعیّین أم إضافیّین ثالثاً، ثمّ البحث عن أسماء الأجناس وأعلامها، وعن معنی النکرة، وعن المفرد المعرّف، وأمثال ذلک.
ثمّ بعد ذلک عن تقاسیم الماهیّة وأقسامها الثلاثة، وعمّا هو المقسم؛ وأنّه هل هو اللابشرط المقسمیّ، أو القسمیّ، أو المجرّد عنهما، وقد تعارف ذلک وبلغ غایته ونهایته، واختلفوا فی هذه المسائل کثیراً.
والذی ربّما یخطر بالبال أنّ هذه المباحث ممّا لا فائدة فیها، وتکون إلیٰ جنب المطلق والمقیّد کالحجر فی جنب الإنسان؛ وذلک لما لا ثمرة أوّلاً فی الاطلاع علیٰ مفهوم «المطلق والمقیّد» ولا فی معلومیّة تقابلهما، ولا غیر ذلک من البحوث الطویل ذیلها:
أمّا بالنسبة إلی البحوث الأوائل الثلاثة؛ فلعدم وقوعهما فی موضوع الأدلّة الشرعیّة حتّیٰ یترتّب علیٰ ذلک لزوم تعریفهما و... إلی آخره.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 393
وأمّا بالنسبة إلی البحوث الاُخر اللفظیّة واللغویّة والعقلیّة؛ فلأنّ صفة الإطلاق والتقیید، وبحثَ المطلق والمقیّد، من البحوث العقلیّة العقلائیّة، ومن الانتزاعیّات عن الأفعال الاختیاریّة، کما یأتی تفصیله عند ذکر مقدّمات الحکمة؛ ضرورة أنّ الإطلاق ینتزع من جعل المقنّن شیئاً موضوعاً لحکمه، وبما أنّه فعله الاختیاریّ یکون هو موضوع حکمه، ولا شیء آخر دخیل فیه، وإلاّ فبما أنّه مختار ومرید وذو غرض، فعلیه جعل قید له من القیود الراجعة إلی التنویع، أو التصنیف، أو کان یرجع إلی التوصیف، کتقیید الأعلام الشخصیّة، فإنّ الکلّ مشترک فی الاندراج تحت التقیید.
وعلیٰ کلّ حال : لیسا من أوصاف الألفاظ حتّیٰ یصحّ البحث اللّغویّ، ولا من الاعتبارات العقلیّة، کاللابشرطیّة، والبشرط لائیّة، حتّیٰ ینفع تلک المباحث العقلیّة، فعلیه یسقط جمیع ما صنعوه فی هذه المباحث، ویتبیّن أجنبیّتها عن بحوث المطلق والمقیّد، وأنّه لا ثمرة فی ذلک، وتبیّن أیضاً أنّ عدّ مباحث المطلق والمقیّد من مقاصد البحوث اللفظیّة، فی غیر مقامه؛ فإنّه أشبه بالبحوث العقلیّة.
أقول أوّلاً : إنّ من ثمرات المباحث الاُصولیّة تقدیم العامّ علی المطلق عند المعارضة، وعلیٰ هذا لابدّ من تعریف المطلق حتّیٰ یعلم حقیقته.
اللهمّ إلاّ أن یقال بعدم تقدیمه علیه، وهو القول الفصل والرأی الجزل، ولا ینافیه ذهاب جمع إلی التقدیم المذکور، ویکفی ذلک ثمرة للبحث کما لایخفیٰ، فلاینبغی الخلط.
وثانیاً : من ثمرات البحوث الاُصولیّة القاعدة المعروفة وهی «أنّ کلّما امتنع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 394
التقیید امتنع الإطلاق» وقد قرّرها جمع منهم مبنیّاً علیٰ أنّ تقابل الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة، فلابدّ من تشخیص التقابل بینهما حتّیٰ تترتّب علیه القاعدة المعروفة.
ومجرّد قولنا: بأنّ القاعدة المزبورة غیر تامّة، أو القول : بأنّ القاعدة تتمّ ولو کان بینهما تقابل آخر، کالتضادّ، والسلب والإیجاب، لایضرّ بإمکان ترتّب الثمرة عند جمع آخر، وهذا وأمثاله یکفی للخروج عن لغویّة البحث جدّاً.
وثالثاً : لو کان الإطلاق والتقیید من المفاهیم الثابتة الواقعیّة ـ کمفهوم الاسم والفعل والحرف ـ لما کان تصویر الإطلاق لدلیل المقیّد ممکناً، فلابدّ من التنبیه علیٰ أنّهما من قبیل مفاهیم الفوقیّة والتحتیّة اللّذین یمکن اجتماعهما فی الواحد الشخصیّ باعتبارین.
ورابعاً : قد نسب إلی المشهور إلیٰ عصر سلطان المحشّین قدس سره أنّ الإطلاق من أوصاف الألفاظ، وأنّ الدالّ علیه ـ کالدالّ علی العموم ـ یکون بالوضع، وقد اختاروا لذلک أمثالاً کأسماء الأجناس وأعلامها، بل والنکرة فی بعض الصور وهکذا، فلابدّ من التعرّض لهذه المفاهیم حتّیٰ تتبیّن صحّة هذه المقالة وعدمها، ویتّضح أنّ الإطلاق واقعاً ممّا یدلّ علیه اللفظ بالوضع، أم لا کما علیه المشهور المتأخّرون قدس سرهم.
ثمّ إنّه لمّا کان الاطلاع علیٰ هذه المسألة بحدودها الوافیة، موقوفاً علیٰ فهم اعتبارات الماهیّة والعناوین العامّة الکلّیة، انجرّ البحث إلی الفحص عنها وعن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 395
أقسامها، وکان النظر فی ذلک إلیٰ بیان مایمکن أن یکون موضوعاً له بهذه الألفاظ.
إن قلت : لنا أن نسأل عن ثمرة هذا الاختلاف المنسوب إلی المشهورین: القدماء، والجدد.
قلت : سیمرّ علیک أنّ من ثمراته لزوم المجازیّة بعد التقیید، وسقوط الحجّیة بعد المجازیّة. ولو أنکرنا لزوم المجازیّة مطلقاً، أو أثبتنا الحجّیة ولو لزمت المجازیّة، کما ذکرناه فی العامّ والخاصّ، ولکنّه لایستلزم سقوط البحث؛ لإمکان ذهاب جمع من الاُصولیّین إلی الملازمة الاُولیٰ، أو کلتا الملازمتین کما لایخفیٰ.
هذا مع أنّ مقتضیٰ ما نسب إلی الثمرة الاُولیٰ هو أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المطلقة، فلانحتاج لإثبات الإطلاق إلیٰ مقدّمات الحکمة، فتأمّل.
فتحصّل حتّی الآن : أنّ عقد البحث لکلّ واحد من هذه البحوث المشار إلیها حقیق؛ لما یترتّب علیها من الفوائد والآثار.
وغیر خفیّ : أنّ للتفصیل وجهاً وجیهاً؛ وهو أنّ ما کان من الألفاظ موضوعاً للمعانی الکلّیة، فهو مطلق لایحتاج إلیٰ مقدّمات الإطلاق مثلاً، وما کان منها موضوعاً للمعانی الجزئیّة ـ سواء کان الوضع فیها عامّا، أو خاصّاً کالمعانی الحرفیّة والأعلام الشخصیّة علی المشهور ـ فهی لیست مطلقة، ولا منع من الاحتیاج فی إثبات الإطلاق إلیٰ مقدّمات الحکمة؛ ضرورة أنّ الإطلاق والتقیید فی المعانی الکلّیة هو التوسّع والتضییق، وفی المعانی الجزئیّة هو اللاتوصیف والتوصیف.
ولست أقول باختلافهما مفهوماً حسب اختلاف موردهما، بل المقصود
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 396
اختلاف آثارهما باختلاف المواضیع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 397