أحکام المطلق والمقیّد والنسبة بینهما
ومن هنا یظهر مواضع الخلط فی کلمات القوم، ومواقف الخلط بین موارد إطلاق المطلق والمقیّد، ولا بأس بالإشارة إلیها بتفصیل حتّیٰ لایقع الباحث فی القلق والاضطراب:
الأوّل : إطلاق الوجود الخارجیّ هی سعته الواقعیّة المبسوطة علیٰ رؤوس الماهیّات الإمکانیّة، کسعة النور الحسّی فی وجه تقریبیّ.
الثانی : بین هذا الإطلاق والتقیید الذی هو تحدید الوجود واقعاً، لیس تقابل بالضرورة إلاّ فی وجه غیر مفهومیّ.
الثالث : هذا الإطلاق واقعیّ لا إضافیّ، کما أنّ الوجود المقیّد المحدود أیضاً تقیید واقعیّ.
الرابع : إطلاق مفهوم الوجود واقعیّ، کما أنّ تقییده واقعیّ، وأنّ إطلاقه لیس بمعنیٰ سعته المحتویة للأشیاء الکثیرة، بل سعته بمعنیٰ صحّة حمله علیٰ جمیع الأشیاء؛ قضّها وقضیضها، وبمعنیٰ عدم تقییده بشیء خارج عن ذاته، وبمعنی انتزاع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 402
مفهوم الإطلاق من ذاته بذاته، ویکون خارج المحمول له، وکلّ ذلک عبارات مختلفة تشیر إلیٰ معنی واحد.
الخامس : تقابلهما یشبه التضادّ.
السادس : الماهیّة المطلقة المنقسمة إلی الأقسام الثلاثة أو الأکثر، لیست موضوعة بالإطلاق، ولا ملحوظاً فیها عدم الإطلاق ، بل الإطلاق ذاتیّ لها، وهی لا تخرج بما هی الجامع لها إلی الأقسام الثلاثة فی موقف تحلیل العقل ، ولیست فارغة عن الإطلاق الواقعیّ .
السابع : لامعنیٰ لأن یکون اللابشرط المقسمیّ ملحوظاً فیه المقسمیّة، ولا ملحوظاً فیه الفراغ عن القسمیّة والمقسمیّة، فإنّ الکلّ من المخلوطة، فما ظنّه العلاّمة المحشّی هنا ونسبه إلی بعض أرباب الفنّ الأعلیٰ، غیر راجع إلیٰ محصّل.
الثامن : التقابل بین هذا الإطلاق الذاتیّ الواقعیّ، وبین التقیید العارض علیه المجامع مع إطلاقها الذاتیّ الواقعیّ، یشبه تقابل التضادّ، وهذا الإطلاق أیضاً واقعیّ، لا إضافیّ؛ ضرورة أنّ الماهیّة الإنسانیّة مثلاً، کما لاتنقلب عن إمکانها الذاتیّ بالوجود وتبعاته إلی الوجوب الذاتیّ، وتکون مع وجوبها الغیریّ الإضافیّ العرضیّ ممکنة بذاتها، فاُشمّت رائحة الوجود، ولم تشمّ، کذلک لاتنقلب عن إطلاقها الذاتیّ بعروض الرومیّة والزنجیّة، فإنّهما أعراض وعوارض تلحقها، وضمائم تطرؤها، ومعنی الإطلاق هنا أیضاً لیس السعة الخارجیّة، أو السریان والشیوع.
التاسع : أنّ لکلّ شیء إطلاقاً عرضیّاً إضافیّاً یزول بعروض القید، من غیر فرق بین الماهیّات الأصلیّة والاعتباریّة، وهذا الإطلاق لیس معناه التوسعة الواقعیّة الجامعة للشتات، ولا معناه السریان، فإنّ الإطلاق السریانیّ یصحّ فی القسم الأوّل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 403
من الإطلاق، وأمّا سائر أقسام الإطلاق، فمعنی سریانه وسعته صحّة صدقه علیٰ کلّ ما کان تحته.
وهذا القسم من الإطلاق أی الفرض الأخیر، هو الإطلاق المنتزع من الشیء فی الکلام الإخباریّ، أو الإنشائیّ، فإذا کان فی الإخباریّات فیسمّیٰ بـ «القضیّة المطلقة العامّة» هکذا فی تقاسیم القضایا فی المنطق.
وإذا کان فی الإنشائیّات فیسمّی الکلام بـ «المطلق» وبـ «أنّه بلا قید» فیعتبر هذا الإطلاق لا من مقام ذات الشیء، فیکون من المحمول بالضمیمة؛ ضرورة أنّ وصف الإطلاق هنا، یرجع إلیٰ أنّه صفة عرضت للکلام من ناحیة عمل المقنّن والمتکلّم، کما یأتی بتفصیل کیفیّة دخالة عمله فی طروّ هذا القسم من الإطلاق علی الجمل الإنشائیّة إن شاء الله تعالیٰ.
العاشر : هذا الإطلاق والتقیید إضافیّان، وتقابلهما یشبه العدم والملکة، وفی اعتبار آخر یشبه التضادّ؛ ضرورة أنّه وصف ینتزع من اللاتقیید.
الحادی عشر : لاینبغی الخلط بین التقابل الواقعیّ، والتقابل الشبیه بالواقع، فإنّ من الخلط بینهما یقع بعض الأعلام فی الاشتباه، ویظنّ صحّة قاعدة معروفة وهی «أنّ کلّما امتنع التقیید امتنع الإطلاق» وهماً أنّها مثل قولهم «کلّما امتنع اتصاف الشیء بالبصیرة یمتنع اتصافه بالعمیٰ» فکما أنّ الثانی صحیح فالأوّل مثله ؛ نظراً إلیٰ أنّ تقابلهما من العدم والملکة.
الثانی عشر : وفذلکة الکلام؛ أنّ للإطلاق إطلاقات فی المفردات والمرکّبات:
أمّا فی المفردات، فهو ما تعارف فی الفنّ الأعلیٰ وبعض العلوم الاُخر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 404
وأمّا فی المرکّبات والقضایا، فهو ما تعارف فی المنطق وفی الفقه والاُصول.
نعم، اختلف الاُصولیّون فی أنّ توصیف الکلام بالإطلاق لأجل اتصاف الکلمة به حقیقة، أم لأجل الأمر الآخر من غیر اتصاف الرقبة بالإطلاق واقعاً أو إضافیّاً.
وبعبارة اُخریٰ : نزاع بین المشهورین القدیم والجدید، ونزاع بین المتأخّرین:
أمّا النزاع الأوّل، فهو فی أنّ الإطلاق الثابت للکلام یرجع إلی الإطلاق الثابت للکلمة؛ سواء کانت فی الکلام أم لا.
وأمّا النزاع الثانی، فهو فی أنّ الإطلاق الثابت للکلام لیس للکلمة سواء کانت فی الکلام، أم لم تکن، بل هی لها حال کونها فی الکلام، ولکن هل نتیجة مقدّمات الحکمة ثبوت الإطلاق للکلمة علیٰ نحو ما أثبته المشهور لها، أم هو أیضاً غیر ذلک، وهذا النزاع هو التشاحّ المشهور: من أنّ الإطلاق هل هو جمع القیود، أو هو رفض القیود؟ فلیکن علیٰ ذکر حتّیٰ لایختلط الأمر فی محطّ الأقوال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 405