المقصد السادس فی المطلق والمقیّد

تذنیب : حول نزاع سلطان العلماء مع سابقیه

تذنیب : حول نزاع سلطان العلماء مع سابقیه

‏ ‏

‏قد أشرنا فی الجهة الثالثة إلیٰ أنّ فی باب المطلق والمقیّد، نزاعاً بین‏‎ ‎‏المشهور إلیٰ عصر سلطان العلماء، وبینهم المشهور بین المتأخّرین، وأیضاً نزاعاً‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 410
‏بین المتأخّرین‏‎[1]‎‏، فهناک نزاعان، والذی هو مورد النظر هنا هو النزاع الأوّل.‏

‏والذی یظهر لی: أنّ الإطلاق المأخوذ فی الموضوع له والمنسوب إلی‏‎ ‎‏المشهور، لیس هو الإطلاق المتمسّک به فی الفقه والاُصول، وقد ذکرنا أنّ اتصاف‏‎ ‎‏الکلام بالإطلاق، لیس من قبیل اتصاف الکلام بالصدق والکذب، فإنّهما من أوصاف‏‎ ‎‏الکلام بما هو کلام، والإطلاق من أوصاف الکلمة إلاّ أنّ المنسوب إلی الشهرة‏‎ ‎‏القدیمة: هو أنّ الکلمة بالوضع ذات إطلاق مقسمیّ، کألفاظ الأجناس، أو قسمیّ‏‎ ‎‏کأعلام الأجناس‏‎[2]‎‏.‏

‏وقد أنکر علیهم المتأخّرون؛ بأنّ الألفاظ لیست موضوعة إلاّ للمعانی المهملة‏‎ ‎‏المجرّدة من جمیع اللحاظات الزائدة علیٰ ذوات الطبائع؛ بحکم التبادر والوجدان‏‎[3]‎‏،‏‎ ‎‏فلا معنیٰ للتمسّک بالإطلاق؛ لما أنّ الکلمة لیست ذات معنی إطلاقیّ، بل الإطلاق‏‎ ‎‏أمر یطرؤها لأجل الاُمور الاُخر، کمقدّمات الحکمة، أو بعض الدوالّ الاُخر، وأمّا‏‎ ‎‏الألفاظ الموضوعة للمعانی الکلّیة الاسمیّة، فکلّها مجرّدة من هذین الإطلاقین.‏

أقول :‏ إن أراد المشهور من صفة «الإطلاق» الاستغناء عن مقدّمات الإطلاق‏‎ ‎‏فی الاستدلال به فی المحاورات العرفیّة وفی القوانین الإلهیّة، فهو أمر غیر صحیح.‏

‏وإن أراد المشهور المتأخّر من «وضع الألفاظ للمعانی المهملة» أنّ الألفاظ‏‎ ‎‏فی دلالتها علیٰ معانیها مهملة وقاصرة، ولاتکون قابلة للصدق والحمل علیٰ کلّ‏‎ ‎‏الأفراد والمصادیق، فهو أیضاً باطل وغیر جیّد بالضرورة.‏

‏ثمّ إن أراد المشهور من «الإطلاق» هو أنّ الأجناس فیمقام الوضع موضوعة‏‎ ‎‏لذات المعانی؛ علیٰ وجه لا قصور فی دلالتها علیها، فیکون الموضوع له ذا إطلاق‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 411
‏ذاتیّ خارج المحمول، وهو الإطلاق المقسمیّ، فهو حقّ صِرْف لا غبار علیه.‏

‏وإن أراد المتأخّرون من «الإهمال» أنّ التمسّک بإطلاق الکلام، غیر جائز‏‎ ‎‏بمجرّد کون الکلمة فی مقام الوضع ذات إطلاق ذاتیّ فی مرحلة الوضع؛ لأجل‏‎ ‎‏الإطلاق الذاتیّ للطبیعة علی الوجه المحرّر فیما سبق‏‎[4]‎‏، فهو أیضاً متین جدّاً.‏

‏ولعمری، إنّ مقالة المشهور کانت تدور حول ذلک، وتکون النسبة المذکورة‏‎ ‎‏إلیهم فی غیر محلّها، وبذلک ینحلّ النزاع، وتصیر المقالة واحدة.‏

‏ولو فرضنا أنّ المشهور کانوا یتمسّکون بإطلاق الکلام من غیر انتظار الأمر‏‎ ‎‏الآخر، فهو فی غیر مقامه؛ ضرورة أنّ جعل الطبیعة موضوع الحکم ـ سواء کان فی‏‎ ‎‏الإخباریّات أو الإنشائیّات ـ یتصوّر علیٰ وجهین، ویمکن أن یکون بلحاظین؛‏‎ ‎‏أحدهما: کونها تمام الموضوع للحکم من غیر دخالة شیء آخر، وثانیهما: کونها‏‎ ‎‏جزء الموضوع، وعلیٰ هذا إذا کان الأمر بحسب مقام الإثبات والحکم، ذا حالتین،‏‎ ‎‏لابدّ من إحراز الحالة الاُولیٰ حتّیٰ یکون للکلام إطلاق بهذا المعنیٰ، وللکلمة إطلاق‏‎ ‎‏أیضاً بهذا المعنیٰ، کما لایخفیٰ.‏

إن قلت :‏ نعم، الأمر کذلک، إلاّ أنّه بعد دلالة اللفظ علی المعنی الساری، وبعد‏‎ ‎‏کون المعنیٰ هو الطبیعة المطلقة بالإطلاق الذاتیّ، فإن اُخذ معها قید فالموضوع‏‎ ‎‏مرکّب، والدلیل مقیّد فی مرحلة الجعل والإنشاء، وإن لم یؤخذ معها قید فالکلام‏‎ ‎‏یتمسّک به وبإطلاقه؛ لصدق ألفاظه علیٰ جمیع معانیه من غیر قصور‏‎[5]‎‏.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ لا بأس بذکر القید مع هذه الطبیعة المطلقة، وأمّا بدون ذکر‏‎ ‎‏القید فی مرحلة الإثبات، فیتمسّک بالکلام من غیر الحاجة إلیٰ أمر آخر، ومن غیر‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 412
‏تصویر الإهمال فی مرحلة الإثبات، کما لامعنیٰ له فی مرحلة الثبوت.‏

‏فالفرق بین المقالتین ینشأ من هنا : وهو أنّ المتأخّرین تخیّلوا الحالة الثالثة؛‏‎ ‎‏وهی حالة الإهمال فی مرحلة الإثبات، والقدماء ینکرون علیهم تلک الحالة،‏‎ ‎‏ولاینکرون علیهم إمکان ورود القید علی الموضوع المأخوذ فی الدلیل، کما هو‏‎ ‎‏الواقع بالضرورة.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ هم یقولون بأنّ مقدّمات الإطلاق إمّا غیر محتاج إلیها رأساً،‏‎ ‎‏أو حاصلة دائماً ومطلقاً، نظیر ما ذکرناه فی النکرة فی سیاق النفی، فإنّها لاتدلّ علی‏‎ ‎‏العموم کدلالة «کلّ» وأمثالها، ولکنّها لاتحتاج إلیٰ مقدّمات الإطلاق؛ لأنّ سیاق‏‎ ‎‏الکلام یکون علیٰ وجه تکون هی حاصلة دائماً‏‎[6]‎‏.‏

قلت :‏ یتوجّه إلیه نقض بأنّ کثیراً مانجد عدم جواز التمسّک بإطلاق الدلیل،‏‎ ‎‏من غیر کون الموضوع مقیّداً، مثلاً لایجوز التمسّک بإطلاق قوله تعالیٰ: ‏‏«‏اُحِلَّتْ لَکُمْ‎ ‎بَهِیمَةُ الْأنْعَامِ‏»‏‎[7]‎‏ لتحلیل البهیمة التی تکون مال الغیر، ولایجوز التمسّک بإطلاق‏‎ ‎‏الدلیل المتکفّل لأصل التشریع، فیعلم من هنا وجود الحالة الثالثة؛ وهی حالة‏‎ ‎‏الإهمال.‏

وحلّه :‏ أنّ إطلاق الموضوع له وإطلاق الوضع، ینفع إذا شکّ مثلاً فی صدق‏‎ ‎‏اللفظ فی موردٍ، ولایصحّ ما یظهر من مشهور المتأخّرین ـ کما اُشیر إلیه ـ من أنّ‏‎ ‎‏الألفاظ موضوعة للمعانی المهملة‏‎[8]‎‏؛ إذا رجع إلی الإهمال فی مرحلة الوضع.‏

‏وأمّا إذا شکّ فی حدود الحکم فی القضیّة الإنشائیّة أو الإخباریّة، فلابدّ من‏‎ ‎‏إثبات الإطلاق الآخر، ولایعقل کفایة الإطلاق المزبور عن الإطلاق الأخیر؛ لما أنّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 413
‏مفاد الکلمة بحسب الوضع، یأبیٰ أن یکون جزء الموضوع أو تمام الموضوع فی‏‎ ‎‏القضیّة، فکونها جزء الموضوع أو تمام الموضوع، أمر یعرض علیها من ناحیة فعل‏‎ ‎‏المتکلّم وأغراضه، فعندئذٍ لابدّ من إحراز ذلک، وهذا یستلزم کون الکلام ذا حالة‏‎ ‎‏ثالثة؛ وهی الإهمال أحیاناً.‏

‏ومن هنا یظهر الاحتیاج إلی المقدّمات العقلیّة لإثبات أنّ المأخوذ فی الدلیل‏‎ ‎‏تمام الموضوع للحکم، لا جزؤه.‏

‏ویظهر عدم تمامیّة القیاس بین الجمل کلّها، وبین النکرة فی سیاق النفی أو‏‎ ‎‏النهی، فإنّ سیاق الکلام ربّما یدلّ علی أنّ المتکلّم، لیس فی مقام إفادة الحکم‏‎ ‎‏علی الإجمال والإهمال، أو یفید أنّه فی مقام إفادة الحکم من جمیع النواهی، دون‏‎ ‎‏ناحیة خاصّة.‏

‏ویظهر من ذی قبل توضیح المقدّمات العقلیّة المثبتة للإطلاق إن شاء الله ‏‎ ‎‏تعالیٰ‏‎[9]‎‏.‏

‏وظهر ممّا ذکرناه فساد ما فی الحواشی للعلاّمة الإیروانیّ من إنکار الحاجة‏‎ ‎‏إلیها، فراجع‏‎[10]‎‏.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 414

  • ))تقدّم فی الصفحة 405 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 395 ، الهامش 3 .
  • ))مطارح الأنظار: 216/ السطر29 ـ 32، کفایة الاُصول: 282 ـ 283، فوائدالاُصول1:572.
  • ))تقدّم فی الصفحة 401 ـ 403 .
  • ))نهایة الاُصول : 376 ـ 379 .
  • ))لاحظ ما تقدّم فی الصفحة 98 ـ 99 .
  • ))المائدة (5) : 1 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 411 ، الهامش 3 .
  • ))یأتی فی الصفحة 423 .
  • ))نهایة النهایة 1 : 307 ـ 312 .