الأمر الثانی : فیما یمکن أن یکون منشأ لهذا التشاحّ والتنازع، وموجباً لهذا الخلاف
لابدّ من النظر إلیٰ ماهو الإشکال فی مرحلة الثبوت عند کلّ من القائلین حتّیٰ ذهب إلیٰ مقالته حذراً منه، وإلاّ فلا معنیٰ لاختلاف العقلاء بما هم عقلاء فی أمر من الاُمور، ومسألة من المسائل.
وما یمکن أن یصیر سبباً له وجوه من البحث نشیر إلیها إجمالاً:
الوجه الأوّل : أنّ جعل الطبیعة فی مثل الأحکام الوضعیّة تمام الموضوع للحکم، غیر معقول؛ لأنّ نتیجة ذلک هو أنّ طبیعة الکلب بما هی هی نجسة، أو طبیعة البیع بما هی هی حلال وهکذا، مع أنّ الطبیعة بما هی هی لیست إلاّ هی، ولو اعتبر أنّها نجسة، فیلزم اعتبار النجاسة لنفس الطبیعة المجرّدة، فتکون أفرادها الذهنیّة نجسة، بل هی فی الحمل الأوّلی أیضاً ـ بعد کونها موجودة بالحمل الشائع فی النفس ـ نجسة وهکذا، فلایمکن أن یکون معنی الإطلاق رفض القیود.
وما قیل: «من أنّ الطبیعة لیست طبیعة إلاّ إذا کانت خارجیّة» کما قد یتعارف ذلک فی تعبیرات الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فهو صحیح، إلاّ أنّ معناه لیس هو الوجود الخارجیّ؛ ضرورة أنّ من أدلّة أصالة الوجود، کونُ الطبیعة موجودة فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 442
الذهن مع عدم ترتّب الآثار علیها، وهذا لأجل تحقّقها فی جمیع النشآت مع انحفاظ الذاتیّات، إلاّ أنّ الوجود الخارجیّ منشأ الآثار، فلابدّ بناءً علیٰ هذا من جعل الطبیعة مرآة إلی الأفراد الخارجیّة، ویکون الکلب الخارجیّ موضوعاً للحکم، لا الطبیعة، وهکذا فی مثل جعل الحلّیة للبیع، فإنّ ماهو الحلال هو البیع الخارجیّ، لا طبیعته ومفهومه الاعتباریّ.
فبناء علیٰ هذا، لابدّ من أن یکون معنی الإطلاق هو جمع القیود؛ لأنّ المتکلّم یسری الحکم إلی الخارج، فإن أسری الحکم إلی الطبیعة بما هی هی فی الخارج مع قطع النظر عن سائر الخصوصیّات، فیلزم کون ما فی الخارج عاریاً، وهذا محال.
مع أنّ لازم ذلک کون واحد من وجوداتها الخارجیّة حلالاً، فلابدّ من إسراء الحکم إلیٰ جمیع الخصوصیّات المکثّرة بنحو الإجمال، فیکون کلّ خصوصیّة تعرض الطبیعة مورد الحلّیة؛ أی یکون البیع الغرریّ حلالاً، والبیع غیر الغرریّ أیضاً حلالاً؛ بمعنی أنّ الحلّیة موضوعها المرکّب من الطبیعة، وخصوصیّة الغرریّة، والخصوصیّة المقابلة لها؛ لأنّ الحلّیة منحلّة إلی الحلّیات.
فعلیٰ هذا، إذا کانت مقدّمات الحکمة تعطی الإطلاق؛ بمعنیٰ جمع القیود هنا بالبرهان، فیکون الأمر کذلک فی سائر المقامات، بل الأمر برهانیّ فی ناحیة النواهی مطلقاً.
نعم، فی الإیجابیّات التکلیفیّة کقولک: «أکرم العالم» یفید التخییر والعموم البدلیّ؛ لأنّ الحکم التکلیفیّ الموضوع کذلک، یسقط بأوّل الوجود فی ظرف الامتثال، فتأمّل جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 443
أقول : یتوجّه إلیٰ هذا التقریب أوّلاً: أنّ جعل الطبیعة مرآة للأفراد الخارجیّة، یحتاج إلی الدلیل؛ لأنّ ماهو المأخوذ فی الدلیل هو قوله: «الکلب نجس» فیکون الکلب والطبیعة مرآة للأعمّ من الأفراد الخارجیّة والذهنیّة. ولو ادعی الانصراف والقطع بالمقصود، فلنا أیضاً فی جعل الطبیعة تمام الموضوع دعوی الانصراف إلی أنّ المقصود هی الطبیعة الخارجیّة.
وثانیاً : لازم هذا البیان أیضاً مفسدة لایمکن الالتزام بها؛ وهی أنّ کلّ خصوصیّة تؤخذ فی مصبّ الحکم لها المصلحة، وکیف یعقل أن یکون لخصوصیّة الغرریّة واللاغرریّة ولخصوصیّة العلم والجهل والفسق والعدالة مصلحة فی وجوب الإکرام؟!
وثالثاً : أنّ ماهو مصبّ الحکم یمکن أن یکون البیع الخارجیّ والکلب الخارجیّ الموجود فی الأعیان، من غیر أخذ الخصوصیّة فی المصبّ وفی الموضوع. والملازمة الخارجیّة بین ماهو فی الخارج مع الأشیاء الکثیرة، لاتستلزم لحاظ جمیعها فی الموضوع، فلا منع من جعل النجاسة والحلّیة للطبیعة الخارجیّة علیٰ نحو جعل لازم الماهیّة للماهیّة، فکما أنّ کلّ فرد من أفراد الإنسان فی الخارج محکوم بالإمکان، ومع ذلک لا مدخلیّة للخصوصیّات والمقارنات فی ذلک الحکم، کذلک الأمر هنا.
ولایلزم من ذلک کون ما فی الأعیان، معرّی عن الخصوصیّة، ولایلزم منه کون فرد حلالاً:
أمّا الأوّل فواضح .
وأمّا الثانی؛ فلأنّ الحلّیة لازم الطبیعة، فکلّما تحقّقت الطبیعة فلازمها ثابت لها، وهی النجاسة والحلّیة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 444
نعم، نعلم من الخارج : أنّ الشرع فی مقام جعل الحکم علی الطبیعة الخارجیّة قطعاً، من غیر دخالة الخصوصیّات الشخصیّة فی ذلک.
وبعبارة اُخریٰ : کأنّ الموضوع المأخوذ فی الدلیل مقیّد بقید الخارجیّة فقط؛ لأنّ الطبیعة الذهنیّة لیست ذات أثر؛ حتّیٰ تعتبر موضوعاً للحکم بالضرورة العرفیّة والعقلیّة.
الوجه الثانی : لو کان معنی الإطلاق هو رفض القیود أیضاً، فلازم قوله «أکرم العالم» و«صلّ وصم» هو الانحلال؛ لأنّ الحکم صار لازم الطبیعة، کما أنّ الحلّیة والنجاسة صارتا لازمتی طبیعة البیع والکلب، ومقتضیٰ ذلک أنّ الطبیعة دائمة اللزوم ودائمة الوجوب، کما أنّ طبیعة الإنسان دائمة الإمکان.
نعم، فی مثل الحلّیة والنجاسة هما لازمهما بعد وجودهما الخارجیّین، وفی مثل الصلاة والصوم معنیٰ لازمهما هو إیجادهما دائماً، ولا معنیٰ لسقوط الأمر بأوّل الوجود.
نعم، بناءً علیٰ ما عرفت: من أنّ مقدّمات الإطلاق ربّما تنوب مناب «أیّ» وتفید الإطلاق البدلیّ، یلزم سقوط الأمر بأوّل الوجود؛ لأنّ الشرع اعتبر التخییر بین الأفراد، فتوهّم التخییر العقلیّ غیر صحیح، بل لازم القول بالرفض هو العموم الاستغراقیّ فی النتیجة، وهذا ممّا لایلتزم به أحد قطعاً.
أقول : قد التزمنا بذلک فی باب الفرق بین النهی والأمر، وأوضحنا هناک أنّ النهی والأمر سیّان فی اقتضاء الهیئة والطبیعة المتعلّقة لها ومقدّمات الحکمة، لزوم الإیجاد المطلق والترک المطلق، إلاّ أنّ الفهم العرفیّ والعقلائیّ فی ناحیة الأمر علیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 445
کفایة الإتیان والامتثال مرّة فی مثل «أکرم العالم» و«صلّ وحجّ وصم».
وأمّا فی مثل «أکرم من فی الدار» و«اقتل من فی العسکر» بل وقولک: «أکرم العالم الذی فی النجف» أو «أعتق الرقبة التی تکون مؤمنة» فالظاهر لزوم إکرام الکلّ علی النعت الاستغراقیّ، لا المجموعیّ وهکذا.
وأمّا مثل «أکرم عالماً» و «أعتق رقبةً» فالتنوین یدلّ علی الوحدة، فلایکون نقضاً، ولذلک یکون التخییر حینئذٍ شرعیّاً. هذا أوّلاً.
وثانیاً : بناءً علی القول بأنّ الإطلاق هو جمع القیود، یلزم سؤال أیضاً: وهو أنّ مقدّمات الإطلاق فی الأحکام الوضعیّة والتکلیفیّة علیٰ نهج واحد، فکیف ومن أین یحصل الفرق فی الأثر، ولأیّة جهة تنوب مناب مثل «کلّ» ونحوها فی الوضعیّات، ومقام مثل «أیّ» ونحوها فی التکلیفیّات؟! ولو انضمّ إلیها الفهم العرفیّ کفایة الامتثال بالواحد، فللقائل بالرفض أیضاً ذلک.
وثالثاً : إنّ فی باب الوضعیّات یستظهر من الدلیل أنّ الحکم اعتبر محمولاً للطبیعة وملازماً لها، بخلاف التکلیفیّات الإیجابیّة، فإنّ الدلیل یتکفّل البعث إلیها، ولازم ذلک سقوط الأمر؛ لأنّ تمام المبعوث إلیه قد تحقّق ، وإذا کانت الطبیعة تمام الموضوع، وهی صارت خارجیّة، لایعقل بقاء الأمر والبعث المتعلّق بها.
نعم، إذا فرض أنّ المتکلّم اعتبر الطبیعة واجبة الوجود فی الاعتبار، واستطهرنا ذلک من قوله: «تجب صلاة کذائیّة» فیمکن تصدیق الکلام المزبور.
إلاّ أنّ قضیّة العقل هو أنّ الشرع لایکون فی تقنینه هذا النحو من الصلاح؛ ضرورة أنّه لا مصلحة فی استیعاب جمیع أفراد الصلاة والصوم، ولذلک لایوجد فی الشرع حکم إیجابیّ استغراقیّ علیٰ هذا النحو؛ وهو وجوب عتق کلّ رقبة علیٰ کلّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 446
إنسان ومکلّف، أو وجوب صرف الوقت کلّه فی إتیان عبادة کذائیّة، فعلیه مادام لم تقم قرینة علی الأزید من واحدة، یکون الحکم العقلیّ علیٰ کفایة الواحدة بالضرورة، فتوهّم أنّ هذه المشکلة نشأت من القول بالرفض، غیر صحیح.
الوجه الثالث : أنّ قضیّة القول بأنّ الإطلاق هو جمع القیود إمّـا المجازیّة، بل الغلطیّة، أو ادعاء أنّ الموضوع فی أسماء الأجناس خاصّ، وحیث إنّ الکلّ باطل فالقول المزبور عاطل.
بیان اللزوم أنّ جعل الطبیعة مرآة للخصوصیّات، إمّا یکون من باب دلالة اللفظة الواحدة علیٰ تلک الخصوصیّات المتباینة، فهذا غیر ممکن؛ لأنّ ألفاظ الأجناس موضوعة عندهم للمهملة. ولو کانت موضوعة للمرسلة ـ بمعنیٰ کون الأسود والأبیض بخصوصیّتیهما السوادیّة والبیاضیّة داخلة فی الموضوع له ـ فهو غیر ممکن ویستحیل ؛ لعدم الجامع بینهما، فلابدّ من کونها موضوعة بنحو الموضوع له الخاصّ، وهذا غیر صحیح.
أویکون الاستعمال مجازاً وغلطاً، وهذا مضافاً إلی_' عدم التزامهم به، غیرممکن؛ لأنّ الاستعمال واحد. والالتزام بالاستعمالات الکثیرة غیر المتناهیة أفحش فساداً.
فلا معنیٰ لمرآتیّة الطبیعة إلاّ کما وضعت له، ولایعقل المرآتیّة لما سویٰ ذلک؛ لأنّها لیست اختیاریّة وبید المتعلّمین، فإسراء الحکم إلی الخصوصیّات یحتاج إلیٰ دوالّ اُخر. ومجرّد کون المتکلّم فی مقام إسراء الحکم لایکفی ولو نادیٰ بأعلیٰ صوته، ولا مع الالتزام بالغلطیّة والمجازیّة وأمثالهما.
فعلیٰ هذا یتعیّن أن یکون الإطلاق رفض القیود؛ لامتناع کونه بمعنیٰ جمع القیود. هذا مع ما اُشیر إلیه من لزوم کون کلّ خصوصیّة دخیلة فی الحکم، وهذا ممّا لایجوز فی شریعة العقل بالضرورة؛ لامتناع کون الغرریّة واللاغرریّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 447
دخیلتین فی مصلحة الحلّیة، والأسودیّة والأبیضیّة دخیلتین فی نجاسة الکلب، فالقول بالرفض متعیّن ثبوتاً من غیر حاجة إلی الاستدلال بمناسبة الحکم والموضوع، وبالجهات الاُخر.
مع أنّ قضیّة القول بالجمع مناقضة العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد، مع عدم إمکان الجمع بینهما کما لایخفیٰ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ مراد القائلین بالجمع یرجع إلیٰ مقالة الرافضین؛ وذلک لأنّ الضرورة قاضیة بأنّ فی مثل إطلاق «الکلب نجس» و«البیع حلال» تسری التسویة المنصوص بها فی کلماتهم ـ أی أنّ الکلب نجس سواء کان أبیض، أو أسود إلیٰ قولهم: «سواء کان الخنزیر موجوداً، أو معدوماً» مع أنّه لیس وجود الخنزیر وعدمه قیداً لموضوع النجس بالضرورة، فکما أنّ هذا التفسیر وارد مورد تأکید الحکم علی الطبیعة لیس إلاّ، کذلک التفسیر والتسویة بالمعنی الأوّل، ولذلک یجعل التسویة وقیدها بعد المحمول، لا قبله؛ أی یقال: «الکلب نجس سواء کان أسود، أو أبیض» أی أنّ الکلب فی الحالتین نجس بما هو کلب، لا أنّ الکلب الأسود نجس، والأبیض نجس، وبذلک ترتفع الغائلة عن الفریقین، وتجتمع الآراء فی البین.
وبعبارة اُخریٰ : إذا شکّ فی نفوذ البیع مثلاً لأجل أیّة خصوصیّة طارئة علیه، یکون الإطلاق مرجعاً، وإذا شکّ فی نفوذه لأجل تقارنه مع وجود الصلح الذی هو «جائز بین المسلمین» فإنّه أیضاً یکون الإطلاق مرجعاً.
مع أنّ المقارنات الوجودیّة الخارجیّة، لیست من تبعیّات ماهیّة البیع، فمنه یعلم أنّ القائل بالإطلاق اللحاظیّ؛ واللابشرط القسمیّ، وجمع القیود، وبجعل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 448
الماهیة مرآة، لایرید إلاّ ما أراده القائل بالرفض. ولا أنّ الاختلاف فی التعابیر أوهم التنازع. ومجرّد إمکان جعل وصف المقارنة من خصوصیّات طبیعة البیع، لایکفی لحلّ المشکلة وجداناً، فتدبّر جیّداً.
وممّا یؤیّد أنّ الإطلاق هو رفض القید، تقابلُه مع التقیید الذی معناه إیراد القید، ولو کان معناه جمع القیود فمعنی التقیید هو إخراج قید، ویکون التقیید بمعنیٰ رفض قید فی موضوعیّته للحکم، وهذا خلاف الذوق جدّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 449