الاستدلال بالکتاب الکریم
فمن النقلیّة آیات، أظهرها قوله تعالیٰ: «وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإذَا أرَدْنَا أنْ نُهْلِکَ قَرْیَةً أمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُوا فِیهَا فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِیرَاً * وَکَمْ أهْلَکْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ».
وعلیٰ هذا، تکون الآیة ظاهرة فی العذاب الدنیویّ، وتکون راجعة إلیٰ أنّ شأنه تعالیٰ، لیس ذلک إلاّ بعد إرسال الرسل وبعثهم؛ ودعوتهم إلی الاعتقادات الحقّة والتوحید والرسالة، فلا ترتبط بمسألتنا الراجعة إلیٰ فرع من الفروع الجزئیّة.
وحدیث الأولویّة، غیر نافع؛ لعدم قطعیّتها، ضرورة عدم ظهور الآیة فی نفی الشأن عنه تعالیٰ بالنسبة إلی العذاب قبل البعث؛ لقوّة کونه إخباراً عمّا سلف؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 13
أی ما کنّا فی الأیّام السالفة کذا، فلا یقاس بالآیات الاُخر، مثل قوله تعالیٰ: «مَا کَانَ الله ُ لِیَذَرَ الْمُؤْمِنِینَ» وغیره، فإنّه نفی عن الحال، وهذه الآیة نفی عن الماضی، فإذا لم تکن بصدد نفی الشأن عنه تعالیٰ، لا یثبت بها ما هو المطلوب فی المقام، کما لا یخفیٰ.
وإطالة البحث حولها بعد ذلک، ممّا لا معنیٰ لها. وکون بعض الآیات السابقة راجعة إلیٰ مسائل القیامة، لا یضرّ بظهورها هنا فی العذاب الدُنیویّ؛ لمناسبة أقویٰ فی ذیلها، کما مرّ.
وأمّا الإشکالات الاُخر، فهی کلّها قابلة للدفع، من غیر أن یلزم کون الاُصولیّ جدلیّاً فی هذه الناحیة.
ثمّ إنّ هناک آیات استدلّ بها علی البراءة إجمالاً، وهی کلّها مذکورة فی المفصّلات، وقد عدلنا عنها؛ لما یشکل تتمیم الاستدلال بها.
نعم، قد استدللنا سابقاً علی المسألة بقوله تعالیٰ: «رُسُلاً مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ لِئَلاّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَی الله ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَکَانَ الله ُ عَزِیزَاً حَکِیمَاً».
وحیث إنّ الآیات السابقة علیها واللاحقة بها، غیر مربوطة بالعذاب الدنیویّ، فتکون هذه الآیة خالیة من الإشکال المذکور آنفاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 14
وحیث إنّ المفروض فیها؛ أنّهم رسل مبشّرون ومنذرون، ولا بشارة ولا إنذار إلاّ بعد الوصول إلی المکلّفین، تکون الآیة أیضاً من هذه الجهة، صالحةً للاستدلال، من غیر الحاجة إلیٰ أخذ الرسالة کنایة، کما أخذوها کنایة عنها فی ذیل قوله تعالیٰ: «وَمَا کُنّٰا مُعَذِّبِینَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً».
وحیث إنّ البحث، حول تمامیّة الحجّة فی الشبهات الوجوبیّة والتحریمیّة وعدمها، ویظهر من الآیة الکریمة الشریفة عدم تمامیّة الحجّة لله علی الناس إلاّ بعد الرسل المبشّرین والمنذرین، فتکون شاهدةً علیٰ عدم تمامیّة حکم العقل بالاحتیاط کما یأتی؛ بتوهّم أنّ دفع الضرر المحتمل واجب.
وحیث إنّ هذه الآیة موضوعها «لِلنَّاسِ» وهو العموم الأفرادیّ إمّا وضعاً، أو لتمامیّة مقدّمات الإطلاق، فلا قصور فی شمولها لجمیع المکلّفین فی سائر العصور وفی عصرنا، بخلاف قوله تعالیٰ: «وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ» فإنّه کان یحتاج إلی التقریب الذی عرفت فساده.
نعم، لا یستفاد من هذه الآیة انتفاء الاستحقاق، ولکنّه غیر منظور؛ ضرورة أنّ النظر إلیٰ تمامیّة الحجّة الباطنیّة أو الظاهریّة، ولک أن تکشف بها انتفاء الاستحقاق عند انتفاء الحجّة، وإلاّ فلو کان مستحقّاً بدونها، لما کان وجه لکون الناس ذوی حجّة علیه تعالیٰ، فکان الأمر دائراً بین کون العباد ذوی حجّة، أو خالقهم، وأنّ الله له الحجّة بعد الرسل، والعباد لهم الحجّة قبل تلک الرسل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 15
وأمّا دعویٰ: أنّ هذه الآیة أیضاً ـ بحسبما تعارف فی الکتاب من ذکر أحوال المرسلین، وما صنع بأقوامهم تکون مرتبطة بالعذاب الدنیویّ، فهی مضافاً إلی عدم وجود القرینة علیها، مدفوعة: بأنّ مفاد التعلیل أعمّ، وأنّ الأمر یدور مدار البشارة والإنذار؛ وتمامیّة الحجّة وعدمها، فمن التعلیل یستفاد العموم، فاغتنم.
نعم، یمکن الإشکال من جهة أنّ الآیة لا إطلاق لها بالنسبة إلی الشبهات الوجوبیّة والتحریمیّة الفرعیّة ولا یکفی العموم الأفرادیّ لمرجعیّة هذا الشکّ، ولکنّه مندفع أیضاً بظهورها فی الإطلاق، کما لا یخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 16