الجهة الثانیة : فی الدلالة
یظهر من الشیخ قدس سره اختصاص «رفع...ما لا یعلمون» بالشبهة الموضوعیّة، ویجوز توهّم اختصاصه بالشبهة الحکمیّة.
وذهب جملة من الأعلام رحمهم الله إلی الأعمّ.
ویجوز دعویٰ إجماله.
ففیه مسالک مختلفة:
أمّا الوجه الأوّل : فهو أنّ الموصول فی الفقرات المشتملة علیه، هو کنایة عن الشبهة الموضوعیّة بالضرورة، فالموصول فیما نحن فیه مثله؛ نظراً إلیٰ وحدة السیاق. هذا أوّلا. بل مقتضیٰ کون الجمیع موضوعاً، ذلک.
وثانیاً: أنّ المحذوف هی المؤاخذة، وهی تناسب کون المراد الشبهة الموضوعیّة، لا الحکمیّة.
وثالثاً: إسناد الرفع مجاز فی سائر الموصولات والفقرات، فلیکن هنا کذلک، وإلاّ یلزم أن یکون حقیقة بالنسبة إلی الشبهات الحکمیّة، فیلزم استعمال اللفظ فی الأکثر من معنی واحد. وهذا الأخیر ما أیّد به صاحب «الکفایة» علیه الرحمة مقالةَ شیخه رحمه الله.
أقول: سیمرّ علیک تحقیق أنّ المحذوف هی المؤاخذة، أو لا محذوف رأساً،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 44
وأنّ الإسناد مجازیّ، أم حقیقیّ، فالاستناد إلی الوجهین الأخیرین لتعیین الموصول فی الشبهة الموضوعیة، غیر تامّ، کما یأتی تمام تحقیقه فی الآتی، فانتظر حتّیٰ حین.
وأمّا الوجه الأوّل، فقد أورد علیه بوجوه، أحسنها ما فی «الدرر»: وهو أنّ قضیّة وحدة السیاق هو الأعمّ؛ لأنّ الموصول فی سائر الفقرات باقٍ علیٰ إطلاقه، فلیکن الأمر کذلک هنا، فیلزم شموله للأعمّ.
ومن الغریب ارتضاء «تهذیب الاُصول» بذلک، ضرورة فساده؛ فإنّ معنیٰ وحدة السیاق: هو أنّ الجملة المذکورة فی أثناء جمل، إذا کانت مورد النظر مستقلّة، فلها العموم، أو الإطلاق مثلاً، وأمّا إذا قیست إلیٰ ما وقع حولها، فلابدّ وأن یکون مثلها فی الخصوصیّة.
مثلاً: إذا کان أطرافها ما تختصّ بالوضعیّات فهی مثلها، أو تختصّ بالتکالیف فکذلک، کما استدلّوا علیٰ عدم کون الکذب علی الله مفطراً؛ لکون النهی عنه فی طیّ النهی عن الغیبة مثلاً.
وإن شئت قلت: إنّ وحدة السیاق تمنع عن انعقاد الإطلاق فیما نحن فیه؛ لجواز اتکال المتکلّم علیٰ سائر الفقرات فی إفادة الاختصاص.
والذی هو الحقّ: أنّ وحدة السیاق وإن کانت قویّة فی ذاتها، إلاّ أنّ مناسبة الحکم والموضوع أقویٰ، فکون الإسناد حقیقة أو مجازاً أو مختلفاً، وإن کان یوجب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 45
رفع الإبهام فی موارد الشکّ، إلاّ أنّ هنا حدیث رفع المجهول إمّا حقیقة، أو ادعاءً، أو مجازاً لفظیّاً، وهذا یناسب رفع الحکم المجهول الأعمّ؛ لأنّه أولیٰ به عند العقلاء، فلا یخطر أوّلاً وبالذات إلی الذهن إلاّ الإطلاق، والعدول عنه یحتاج إلیٰ ملاحظة وحدة السیاق المغفول عنها عند العامّة.
وأمّا الوجه الثانی : فهو أنّ المجاز علیٰ خلاف الأصل، فیقتصر فیه علی القدر المتیقّن منه، ففیما نحن فیه یتعیّن کون المراد من الموصول هی الشبهة الحکمیّة؛ لأنّ الحکم یقبل الرفع حقیقة دون الموضوع، فلا وجه لحمله علی الأعمّ، حتّیٰ یلزم استعمال اللفظ الواحد فی المعنیین، أو یلزم المجاز والحقیقة فی الاستعمال الواحد.
وأمّا توهّم: أنّ قضیّة وحدة السیاق فی الاستعمال هی المجازیّة، فیکون فیما نحن فیه أیضاً مجازاً؛ لقیام القرینة علیه، فهو لا یرجع إلیٰ محصّل؛ لأنّه سیمرّ علیک أنّ المجازیّة بحسب الإرادة الاستعمالیّة، ممنوعة هنا.
أقول أوّلاً: یجوز أن یکون المرفوع هو الحکم فی الشبهات الموضوعیّة والحکمیّة، إلاّ أنّ منشأ الشبهة مختلف، وهذا غیر سائر الفقرات، فإنّ فی مثل الاضطرار ونحوه، لا یتصوّر الاضطرار إلی الحکم، بخلاف الجهالة، فإنّها تتصوّر بالنسبة إلی الحکم الجزئیّ والکلّی، فلا یلزم استعمال الواحد فی الکثیر، ولا الجمع بین الحقیقة والمجاز.
وثانیاً: الرفع منسوب بحسب الاستعمال أوّلاً إلی النسیان أو السهو، فیکون الحرف العاطف موجباً لاستناده إلیه عرفاً وتوهّماً، لا واقعاً وحقیقة، کما لا یخفیٰ، فلا نسبة بین الرفع والموصول فیما نحن فیه بحسب الحقیقة. والتکرار الحکمیّ لأجل حرف العطف، لا یتضمّن إلاّ الاستعمال الحکمیّ، لا الواقعیّ. وحدیث
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 46
العوامل؛ وأنّ العامل کذا وکذا، من أحادیث المدارس، دون الأعراب وجمهور الناس، فلا یصحّ الاستئناس بشیء خاصّ من إسناد الرفع إلی الموصول فیما نحن فیه، ولا معنیٰ لاستظهار شیء منه؛ لأنّه کلّه مجرّد التخیّل والأدب الخاصّ، دون العامّ.
فعلیه إذا أمکن الأعمّ یتعیّن ذلک؛ لفراغ المتکلّم من هذه الخصوصیّات فی مثل هذه المسائل، وتتعیّن المراجعة إلیٰ فهم العرف والعقلاء مع قطع النظر عن ذلک کلّه، وإلیٰ مناسبات الحکم والموضوع، فلا تخلط.
وأمّا الوجه الثالث : وهو کون الحدیث فیما نحن فیه مجملاً؛ فذلک إمّا لأجل عدم إمکان ترجیح مقتضیٰ وحدة السیاق علیٰ أصالة الحقیقة وبالعکس. وفیه ما مرّ.
وإمّا لأجل أنّ مفاد الموصول إن کان المعنی الاسمیّ، فیکون الموضوع له عامّاً، فإنّه یمکن القول: بأنّ المرفوع أعمّ، أو أخصّ.
وأمّا إذا کان مفاد الموصول علیٰ وجه یکون الموضوع له خاصّاً، فتکون لفظة «ما» الموصولة ـ کلفظة «الذی» مشتملة علیٰ معنی الإشارة إلی العناوین الذاتیّة، کعنوان «الخمر» و«شرب التتن» و«جلسة الاستراحة» وغیرها، فلا یشمل الشبهات الموضوعیّة؛ لأنّ عنوان «المشتبه والمجهول» لا یمکن أن یکون مورد الإشارة، بعد کون المحمول عنوان «المجهول» وهو قوله: «لا یعلمون» ضرورة أنّ الذهن ینتقل من الإشارة إلی العناوین المبیّنة، فتکون الجهالة فی المحمول، مخصوصة بالحکم الکلّی؛ أی «رفع الذی لا یعلمون» وهو شرب التتن، فینحصر «ما لا یعلمون» بالحکم الکلّی، وعلیٰ هذا حیث لا طریق إلیٰ تعیین ما هو الموضوع له علیٰ وجه مبیّن، یلزم الإجمال فی جملة «ما لا یعلمون».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 47
ولو أمکن أن یکون لفظة «ما» إشارة إلی المشتبه موضوعاً، ولکنّه غیر موافق لفهم العرف قطعاً، فیسقط الحدیث عن إمکان الاستدلال به، کما لا یخفیٰ، فتدبّر؛ فإنّه حقیق بالتدبّر والتأمّل.
ولو قیل: القدر المتیقّن هی الشبهة الموضوعیّة.
قلنا: لا یمکن الالتزام به؛ لأنّه علیٰ تقدیر کون المراد أعمّ، لابدّ من الالتزام بتعدّد الاستعمال، فلا قدر متیقّن حینئذٍ.
أقول أوّلاً : إمکان کون لفظة موضوعة للمعنی المرکّب من المعنی الحرفیّ والاسمیّ، محلّ المناقشة، کما حرّرناه فی محلّه، فکون «ما» أو «الذی» موضوعین للمعنی الاسمیّ مع إشراب الإشارة فیه ـ وهی معنی حرفیّ غیر واضح سبیله.
وثانیاً: إنّ الظاهر عند أهله أنّ معنیٰ «من» و«ما» الموصولتین، کلّی اسمیّ ینطبق علی الخارج، ویکون «ما» بمعنیٰ کلمة «شیءٍ» المنوّنة بتنوین التنکیر، ولا ریب فی أنّه معنی اسمیّ مقیّد، فتلزم أعمّیة الحدیث.
وثالثاً: لا تکون العناوین الکلّیة مورد الإشارة، بل الخارج موردها؛ أی التتن الخارجیّ، فیکون المستفاد منه أنّ الذی لا یعلمون حکمه مرفوع، فیشمل المشتبه بین الماء والخمر، فتأمّل.
ورابعاً: عنوان «المشتبه» موضوعاً، ممّا لا یعلم الاُمّة حکمه، فیکون مورد الرفع، وهکذا شرب التتن، فیکون الحدیث أعمّ.
وخامساً: قد عرفت أنّ القول بالأعمّیة، لا یستلزم الاستعمال فی الکثیر، وسیمرّ علیک زیادة توضیح حوله فی الجهة الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 48