المقصد التاسع فی البراءة

تحصیل وتحقیق

تحصیل وتحقیق

‏ ‏

‏لا شبهة فی أنّ مادّة «علم» وهیئة «لا یعلم» تتعدّیٰ إلی المفعولین، ویکون‏‎ ‎‏المراد من «العلم» العلم التصدیقیّ، لا التصوّری، فلابدّ علیٰ هذا من کون الجملة‏‎ ‎‏محذوفة؛ أی «رفع ما لا یعلمون أنّه حرام» أو «أنّه خمر».‏

‏ولا معنیٰ لما اشتهر من حذف ضمیر الصلة‏‎[1]‎‏؛ لأنّ التعدیة بالمفعول الواحد،‏‎ ‎‏توجب کون العلم تصوّریاً، وهو غیر منظور هنا بالضرورة، ولذلک ذکرنا: أنّ الجملة‏‎ ‎‏الواقعة عقیب مادّة «العلم» لا تأوّل بالمصدر؛ للزوم نقض الغرض، وما اشتهر من‏‎ ‎‏تأویل الجملة الواقعة عقیب مادّة «علم» إلی المصدر والمعنی غیر التصدیقیّ‏‎[2]‎‏،‏‎ ‎‏غیر صحیح، فإذا قیل: «اعلم أنّ المکلف کذا» یکون المقصود العلم التصدیقیّ؛‏‎ ‎‏ولو کان بناء العرب علیٰ قراءة «أنّ» بفتح الهمزة، إلاّ أنّها فی الحقیقة جملة‏‎ ‎‏غیر قابلة للتأویل.‏

‏فعلیٰ هذا، قولهم هنا: «بأنّ المحذوف ضمیر عائد إلی الموصول، وهو رفع ما‏‎ ‎‏لا یعلمونه» غلط، بل المحذوف جملة، وهو قولهم: «لا یعلمون أنّه کذا» وحیث لم‏‎ ‎‏یذکر فإمّا یصیر مجملاً، وهو غیر جائز؛ لأنّ المتکلّم لیس بصدد إفادة الإجمال،‏‎ ‎‏فعلیه یدلّ الحذف علی العموم، وتصیر ‏«ما»‏ کنایة عن الموضوع فی الشبهة الحکمیّة‏‎ ‎‏والموضوعیّة، ویسقط نزاع القوم من أساسه، ویصیر الحدیث للأعمّ.‏

‏مع أنّ المراد من لفظة ‏«ما»‏ هو الموضوع فی مقابل المحمول، کما فی سائر‏‎ ‎‏الفقرات، فیجمع حینئذٍ بین جمیع الجهات الموجبة لتشتّت الأفکار واختلاف‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 49
‏الأعلام؛ لأنّ ما لا یعلمون أنّه خمر مرفوع، وما لا یعلمون أنّه حرام مرفوع، فالرفع‏‎ ‎‏یستند إلیٰ ‏«ما»‏ الذی هو الموضوع مطلقاً، وهو المفعول الأوّل، ولا یعقل أن یکون‏‎ ‎«ما»‏ کنایة عن الحکم إلاّ علی التخیّل المزبور الباطل بالضرورة.‏

وبالجملة:‏ کما لا معنیٰ لقولک: «إنّی أعلم الحرمة» إلاّ بمعنیٰ أنّی أتصوّر‏‎ ‎‏الحرمة، کذلک لا معنی لقولک : «لا یعلم زید الحرمة» بل هو یرجع إلیٰ أنّه لا یعلم‏‎ ‎‏أنّ کذا شیء حرام، وحیث إنّه لیس فی الکلام ما یدلّ علیٰ خصوص مجهولیّة‏‎ ‎‏الحرمة، فیلزم القول بالأعمّیة، أو الإجمال، ولا سبیل إلی الثانی، فیتعیّن الأوّل.‏

‏ ‏

وهم ودفع

‏ ‏

‏لأحدٍ أن یقول: إنّ المحذوف هو المفعولان؛ لأنّ مادّة «علم» تتعدّیٰ إلیهما،‏‎ ‎‏فیکون المعنیٰ رفع ما لا یعلمون التتن حراماً، ویکون التتن رافعاً لإبهام لفظة ‏«ما»‎ ‎‏فالمفعول الأوّل مبیّن الموصول، فیختصّ الحدیث بالشبهة الحکمیّة.‏

ویندفع:‏ بأنّ تقدیر التتن وشربه بلا وجه؛ لجواز أن یکون الأمر کذلک: «رفع‏‎ ‎‏ما لا یعلمونه خمراً» أو «لا یعلمونه حراماً» ولا برهان علیٰ لزوم رفع الإبهام بعد‏‎ ‎‏کون الإبهام موجباً للأعمّیة، وقد أتیٰ به المتکلّم مبهماً، فعلیه یکون الکلام هکذا:‏‎ ‎‏«رفع ما لا یعلمونه حراماً» أو «واجباً» أو «موجباً للعقاب والمؤاخذة» أو «الضیق»‏‎ ‎‏والحذف دلیل العموم، وسیمرّ علیک احتمال لزوم الأخذ بالقدر المتیقّن.‏

‏ومن هنا تتّضح لأهل البصیرة أبواب التحقیق والبحث، وتظهر مواضع‏‎ ‎‏الضعف فی کلمات القوم صدراً وذیلاً، فإنّ حدیث وحدة السیاق‏‎[3]‎‏ محفوظ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المرفوع مطلقاً هو الموضوع، إلاّ أنّه فی مقابل المحمول، ویکون أمراً تکوینیّاً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 50
‏وحدیثَ أصالة الحقیقة‏‎[4]‎‏ غیر تامّ؛ لأنّ المسند إلیه علیٰ کلّ تقدیر أمر‏‎ ‎‏خارجیّ، کسائر الفقرات.‏

‏وحدیثَ لزوم استعمال الواحد فی الکثیر، ولزوم الجمع بین الحقیقة والمجاز‏‎ ‎‏فی الاستعمال الواحد‏‎[5]‎‏، أیضاً قد ظهر فساده؛ لأنّ فی الشبهات الحکمیّة لیس‏‎ ‎‏المرفوع الحکم، بل المرفوع ما لاتصدّق الاُمّة الإسلامیّة أنّه حرام، کشرب التتن، أو‏‎ ‎‏أنّه خمر، کالمائع الخارجیّ.‏

ولک دعویٰ:‏ أنّ المحمول هو حرام فی الفرضین؛ لأنّ المشتبهة خمریّته‏‎ ‎‏مشکوکة حرمته، کما لا یخفیٰ.‏

‏والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.‏

‏ ‏

دفع وتوضیح

‏ ‏

‏ربّمـا یخطـر بالبال أن یقال: إنّ مشتبه الخمریّة قابل للرفع، وإسناده إلیه‏‎ ‎‏إسناد یساعده الاعتبار والذوق، بخلاف إسناده إلیٰ شرب التتن، ولأجل ذلک اُسند‏‎ ‎‏فیه إلی الحکم.‏

‏وأنت بعد ما عرفت علمت: أنّه لابدّ من کون المسند إلیه نفس الفعل‏‎ ‎‏والموضوع إیجاداً وترکاً، وکما أنّه فی مشتبه العنوان یکون الرفع باعتبار الآثار، أو‏‎ ‎‏بوجه آخر، کذلک الأمر فی معلوم العنوان ومشتبه الحکم، کشرب التتن، ولا یستند‏‎ ‎‏الرفع إلی الشرب خاصّة حتّیٰ یتوهّم الاستبعاد، بل المسند إلیه عنوان ینطبق علیهما‏‎ ‎‏علیٰ حدّ سواء.‏

فبالجملة تحصّل:‏ أنّ قولهم: «لا یعلمون حکمه» غلط؛ لأنّه من العلم‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 51
‏التصوّری، بل التقدیر «لا یعلمون أنّه حرام» أو «أنّه خمر» فالمرفوع دائماً هو‏‎ ‎‏الموضوع؛ باعتبار حکمه الکلّی، أو الجزئیّ، ویکون المرفوع الموصول الذی هو‏‎ ‎‏المفعول الأوّل، والمجهول هو القضیّة، لا المفرد.‏

‏وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما أفاده العلاّمة الأراکیّ من مقایسة الفقرات؛ وأنّ‏‎ ‎‏الثلاث الأخیرة تختلف مع الأربع المتوسّطة، فلا یمکن الأخذ بالوحدة السیاقیّة‏‎[6]‎‏،‏‎ ‎‏والأمر سهل.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 52

  • )) حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 4: 30، لاحظ نهایة الدرایة 4: 48.
  • )) شرح ابن عقیل: 350 ـ 351، شرح شذور الذهب 1 : 206 ـ 207.
  • )) تقدّم فی الصفحة 45 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 46 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 44 ـ 46 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 216.