الجهة الخامسة : فی محاذیر رفع مطلق الآثار وأجوبتها
قد تبیّن فیما سلف: أنّ المسلک الثانی ـ وهو رفع العناوین والموضوعات ادعاء هو الأقرب لو لم یتمّ المسلک الثالث الذی أبدعناه، وإذا کان فی جمیع الفقرات إسناد مجازیٌّ، فالمصحّح هو رفع جمیع الآثار؛ لأنّ رفع بعض الآثار یحتاج إلیٰ مؤونة زائدة، أو یکون بعضها أظهر، ولا أظهریّة إلاّ للعقاب، ولکنّه ممنوع ثبوتاً کما مرّ، فإذا کان مطلق الآثار مرفوعاً، فیتوجّه الإشکال الذی مرّ فی ذیل البحث السابق، وکان ینبغی أن نذکره هنا کما لا یخفیٰ.
وعلیٰ کلّ تقدیر: فلابدّ فی مثل الإکراه علی الجنابة، والاضطرار إلیٰ أکل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 94
النجس، ونجاسة ملاقیه ـ وهو الشفتان مثلاً من الالتزام بأحد الأجوبة السابقة، وقد عرفت ما فیها.
ولعلّ القائلین برفع العقاب، أو بعدم شمول الحدیث للأحکام الوضعیّة، لمّا رأوا هذه المعضلة التزموا بذلک، وإلاّ فدعویٰ: أنّ الأحکام المرفوعة به هی الثابتة بالإطلاق، دون الثابتة علی الإطلاق، غیر کافیة؛ لأنّ مثل الجنابة والنجاسة ثابتة بالإطلاق.
أو دعویٰ: أنّ تلک الوضعیّات لا تنالها ید الجعل، فلا تنالها ید الوضع، غیر کافیة؛ لأنّ نیلها باعتبار أحکامها ممّا لا بأس به. مع أنّها ممّا تنالها ید الجعل حسبما تحرّر.
فیبقیٰ فی المقام جواب آخر: وهو أنّ فی رفع النجاسة والجنابة بما هی هی، لیس سعة، فما فیه السعة هی الأحکام المترتّبة علیها، کما أنّ الأحکام التی هی تترتّب علیها ترتفع به؛ لما فیها من السعة، کحرمة الاستمناء والإجناب المحرّم، وشرب النجس، وأکل المیتة. فما هو المرفوع هی حرمة الشرب بعد أکل النجس استکراهاً، کما فیما إذا اُکره علیٰ أکل المیتة، وکان الإکراه مستمرّاً، فشرب فی الأثناء الماء، مع أنّه ینجس بملاقاة الشفة المتنجّسة، فإذا لم یکن مکرهاً علیٰ شربه، ولا مضطرّاً إلیه بالخصوص، فیلزم جواز شربه حین الإکراه، أو الاضطرار إلیٰ أکل المیتة، وهکذا شرطیّة الطهارة من الحدث، والالتزام بذلک مشکل کما هو الواضح، فهذا الجواب أیضاً غیر کافٍ.
ویمکن أن یقال: إنّ فی صورة الإکراه علی الجنابة إذا زال الإکراه، فلا ترتفع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 95
الشرطیّة؛ لأنّ السعة باعتبار حال الإکراه، لا باعتبار حال زواله کما مرّ، وقد عرفت: أنّ فی حال الإکراه لا ترتفع الجنابة؛ لما لا سعة فی رفعها، فیکون جنباً وضعاً، وإذا زالت حالة الإکراه یجب علیه الغسل شرطاً؛ إذا کان الوقت واسعاً له، کما هو مفروض البحث، وإلاّ فمع ضیق الوقت ینتقل من المائیّة إلی الترابیّة؛ لأجل الأمر الآخر.
فما قد یقال بالالتزام بالتبدیل من المائیّة إلی الترابیّة عند الضیق، أجنبیّ عن بحث حدیث الرفع الرافع لمطلق الآثار، اللازم منه رفع الجنابة المترتّب علیه عدم وجوب الغسل، وعدم ناقضیّتها للوضوء السابق، وهکذا.
فبالجملة: لو اُکره علی الجنابة تکون حرمة الاستمناء مرفوعة، دون الجنابة؛ لما لاسعة فی رفعها بما هی هی، ولا معنیٰ لرفع آثارها باعتبار حال ارتفاع الإکراه؛ لما لا یکون الحدیث منّة بالنسبة إلیٰ تلک الأحوال.
نعم، یبقی الإشکال الآخر: وهو لزوم بقاء الوضوء السابق علی الاستمناء، فتأمّل.
بقی الإشکال بالنسبة إلی الشرب حال نجاسة الفم، فإنّ النجاسة لا ترتفع، ولأجل ذلک لو لاقت شیئاً یحرم علیٰ غیره أکل الملاقیٰ ـ بالفتح إذا لم یکن مضطرّاً أو مکرهاً، فلا تزول النجاسة بالحدیث. ودعویٰ زوالها الحیثیّ، غیر تامّ جدّاً. مع أنّه لا سعة علی المکره والمضطرّ فی رفع النجاسة.
وأمّا بالنسبة إلیٰ حکمها؛ وحرمة شرب ملاقیه وأکله، فیجوز أن یقال: إنّ فی رفع الحکم الوضعیّ بما هو هو، لیس سعة، والحکم التکلیفیّ المتعلّق به وإن کان فی رفعه السعة، إلاّ أنّ الإکراه والاضطرار غیر متعلّق به کما هو الظاهر، فشرب الماء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 96
حین أکل المیتة عن إکراه واضطرار، محرّم وباقٍ علیٰ تحریمه.
وهذا أیضاً جواب آخر بالنسبة إلیٰ وجوب ردّ المثل والقیمة، ووجوب الجبران فیما إذا اضطرّ إلیٰ إتلاف مال الغیر، أو اضطرّ إلیٰ إصلاح داره المنجرّ إلیٰ فساد جدار دار جاره، فإنّ رفع الضمان بما هو هو لا سعة فیه، وبالنسبة إلی الحکم التکلیفیّ المترتّب علیه لیس مکرهاً، ولا مضطرّاً، وهکذا بالنسبة إلی الغسل الواجب الشرطیّ، أو البقاء علی الوضوء الواجب الشرطیّ.
إن قلت: یجوز رفع الحکم الوضعیّ بنفسه؛ لما فیه السعة باعتبار التکلیف والضیق الآتی من قبله.
قلت: لیس هذا الرفع شأن الحدیث؛ لأنّه جاء للتوسعة علی المکره والمضطرّ بالنسبة إلی ما استکره علیه واضطرّ إلیه، لا غیره، ولا مکره ولا مضطرّ إلاّ بالنسبة إلیٰ أکل النجس والمیتة، فما هو مورد الاضطرار فیه السعة، ولا سعة فی رفع الحکم الوضعیّ إلاّ باعتبار أمر آخر. وبعبارة اُخریٰ الحدیث فیه المنّة والسعة بالنسبة، لاعلی إلاطلاق.
وإن شئت قلت: المکره والمضطرّ إلیٰ أکل النجس مثلاً؛ وإن کان متعلّق الإکراه والاضطرار هو أکل المیتة أوّلاً وبالذات، ولکنّه ینتهی إلی الاضطرار إلی العصیان ومخالفة المولیٰ، وهذا الاضطرار الأخیر یوجب الرفع، دون الاضطرار الأوّل.
وبعبارة اُخریٰ: تارة یکره علیٰ أکل المیتة، فلا یرفع به إلاّ حرمة أکل المیتة، واُخریٰ: یکره علیٰ أکل النجس، فهو فی الحقیقة راجع إلی الإکراه علی العصیان، وهکذا فی جانب الاضطرار، فلا یرفع بمثله حکم النجس، إلاّ أنّه معذور بحکم العقل؛ لأنّ العصیان لیس بسوء الاختیار وإن کان بالاختیار، وما هو الموجب للاستحقاق ولصحّة العقوبة هو الأوّل، فاغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 97
ثمّ إنّه سیظهر تمام البحث حول سائر الوضعیّات ـ کالجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة ـ فی أبواب العبادات، بل والمعاملات، وهکذا الأحکام المختصّة بطائفة من فقرات الحدیث إن شاء الله تعالیٰ.
وقد اُجّل البحث والتألیف لأجل تشرّفنا بالحجّ، رزقنا الله تعالیٰ إیّاه فی کلّ عام، ولأجل أیّام عزاء سیّد الشهداء سلام الله تعالیٰ علیه، وکان ذلک عام خمسة وتسعین بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبویّة، علیٰ مهاجرها آلاف الثناء والتحیّة، فی النجف الأشرف، علیٰ مشرّفه السلام.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 98