الجهة الاُولیٰ : فی انقسام البراءة إلی شرعیّة وعقلیّة وعقلائیّة
قد اشتهر تقسیم الاُصولیّین للبراءة إلی الشرعیّة، والعقلیّة.
والحقّ: أنّها علیٰ ثلاثة: شرعیّة، وعقلائیّة، وعقلیّة:
أمّا البراءة الشرعیّة، فهی ما یدلّ من الأدلّة اللفظیّة علیٰ حلّیة المشکوک؛ وإباحة الشبهة، والمخالف فی هذه المسألة جماعة من الأخباریّین، حیث ذهبوا إلی الاحتیاط فی التحریمیّة. وعن بعضهم القول به حتّیٰ فی الإیجابیّة.
وأمّا البراءة العقلائیّة، فهی ما یدلّ علیها حکم العقلاء بقبح المؤاخذة بلا بیان، والعقاب علی المخالفة بلا برهان، وهذا حکم یستوی فیه جمیع العقلاء بالنسبة إلیٰ جمیع الموالی، والظاهر أنّه لا مخالف فیه حتّی الأخباریّین، إلاّ أنّهم یعتقدون بتمامیّة البیان فی الشبهات التحریمیّة، وبأنّ العقاب لیس بلا برهان بعد قیام الأدلّة اللفظیّة.
وغیر خفیّ: أنّ الأشعریّ أیضاً یلتزم بالحسن والقبح العقلائیّین، ویعتقد بعدم عقلائیّة العقاب المذکور.
وأمّا البراءة العقلیّة، فهی مفاد حکم العقل ودرک العاقلة وامتناعَ صدور
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 128
العقاب منه تعالیٰ فی الشبهة؛ لأنّه قبیح، ویمتنع صدور القبیح عنه تعالیٰ، خلافاً للأشاعرة المنکرین للحسن والقبح العقلیّین، حیث ذهبوا إلی الجبر بمقتضی الأدلّة الخاصّة التی لا ینالها إلاّ الأخصّائیون، وأهل الحلّ والعقد.
وهذا أمر یختصّ به تعالیٰ؛ ضرورة أنّه بالنسبة إلیٰ قبح العقاب بلا بیان، لا یکتفی العقل؛ لجواز ارتکاب المولی القبیحَ، وقد ارتکب کثیر من الموالی العرفیّین القبائح الکثیرة، فلابدّ أن لا یقف العقل إلاّ بعد إثبات الامتناع؛ وأنّه قبیح بحکم العقل، وممتنع صدوره منه تعالیٰ أیضاً بالبراهین العقلیّة، وأنّ حدیث الجبر ممّا لا أساس له إلاّ عدّة توهّمات شاعرة، وذوقیّات عرفانیّة، وتقریبات وتسویلات شیطانیّة، تحرّر منّا تفصیلها فی «قواعدنا الحکمیّة» وللوالد المحقّق ـ مدّظلّه رسالة خاصّة فیها.
فتحصّل: أنّ ما یتمسّک به الاُصولیّون هی البراءة العقلائیّة، ولا ینکرها حتّی الأشعریّ، إلاّ أنّ العقل یجوّز الوقوع فی المهلکات بعد احتمال صدور القبیح من المولیٰ، فلا بدّ من البراءة الثالثة: وهی إثبات امتناع صدور القبیح، وإن کان یکفی عند العقلاء الثانیة أیضاً، وعند المتشرّعة الاُولیٰ، إلاّ أنّه لا بدّ من سدّ باب الابتلاء بالعقاب الاُخرویّ، ولا یکفی ولا یقف العقل بعد وجود الاحتمال، ولاسیّما بالنسبة إلی البراءة الشرعیّة، کما لا یخفیٰ أصلاً.
وبالجملة: مادام لم ینضمّ إلیٰ تلک البراءتین هذه البراءة العقلیّة، لا یستریح العقل فی الشبهات؛ ضرورة أنّ فی مثل البراءة النقلیّة، یجوز تخلّف الأدلّة اللفظیّة عن الواقع، فعند ذلک یتشبّث العقل بتلک البراءة؛ لأنّ علیٰ جمیع الفروض لا تکون الحجّة والبیان تامّاً، کما هو الواضح.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 129