المقصد التاسع فی البراءة

جولة و تحقیق : فی المراد من الأمر بالتوقّف

جولة وتحقیق : فی المراد من الأمر بالتوقّف

‏ ‏

‏إنّ الأمر بالتوقّف عند الشبهة إمّا یکون إرشاداً، کما هو مختار الشیخ ‏‏رحمه الله‏‏ فی‏‎ ‎‏حلّ مشکلة المسألة فی المقام‏‎[1]‎‏، وهو ممّا لا یمکن تصدیقه؛ لأنّه مضافاً إلیٰ کونه‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 163
‏خلاف الأصل، یکون إرشاداً إلی ما یستقلّ به العقل، وهو ممنوعیّة الاقتحام فی‏‎ ‎‏الهلکة، فلا یلزم من حمله علی الإرشاد، جواز الأخذ بأخبار الحلّ والبراءة؛ ضرورة‏‎ ‎‏أنّ الاقتحام فی الهلکة، لیس فی ترکه الرجحان المجتمع مع ترخیصه، فیکون من‏‎ ‎‏قبیل الأمر المرشد إلیٰ طاعة الله ورسوله اللازمة عقلاً.‏

‏وإمّا یکون نفسیّاً، فیکون التوقّف واجباً من الواجبات الشرعیّة المستتبع‏‎ ‎‏للعقوبة والهلکة، وهذا غیر جائز؛ للزوم تعدّد العقاب فی صورة الاشتباه، ووحدته‏‎ ‎‏فی صورة ارتکاب الحرام المعلوم، فتأمّل.‏

‏وأمّا المناقشة فیهذا الاحتمال ‏تارة:‏ بأنّه لایعقل أن یکون نفسیّاً؛ لما لاهلکة‏‎ ‎‏مع قطع النظر عن هذا الإیجاب، ضرورة أنّ البراءات الثلاث، تنفی الهلکة والعقوبة‏‎ ‎‏الاُخرویّة‏‎[2]‎‏. ففیه: أنّ من هذا الأمر والتعلیل، یستکشف عدم رضا الشرع بارتکاب‏‎ ‎‏الحرام المشتبه لو صادف، فیعلم منه تنجّز الواقع مع کونه فی حدّ نفسه محرّماً.‏

واُخریٰ:‏ بأنّ لازمه تخصیص الکثیر‏‎[3]‎‏. ففیه: أنّ لسان الدلیل المخصّص غیر‏‎ ‎‏معلوم، وخروج الکثیر ـ بعد کون الباقی تحت العامّ کثیراً غیر مستهجن.‏

وثالثة:‏ بأنّ لسانه آبٍ عن التخصیص‏‎[4]‎‏. وفیه ما مرّ من أنّ من المحتمل کون‏‎ ‎‏الشبهات الوجوبیّة والموضوعیّة، خارجةً بلسان الحکومة ونفی الهلکة فی مواردها،‏‎ ‎‏فلا تخصیص حتّیٰ یلزم الاستهجان، کما فی خروج کثیر من موارد الربا بلسان‏‎ ‎‏الحکومة، مع إباء أدلّته عن التقیید والتخصیص.‏

‏ولا حاجة إلیٰ إنکار شموله للشبهات الوجوبیّة؛ ضرورة أنّ فی ترک الواجب،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 164
‏ابتلاءً بالهلکة والعقوبة الاُخرویّة؛ واقتحاماً فیها. وعدم صدق ‏«الوقوف»‎[5]‎‏ ممنوع‏‎ ‎‏وغیر لازم بعد عموم الکبریٰ.‏

‏فما فی کلام القوم صدراً وذیلاً من المناقشات فی الأخذ بتلک الطائفة ثبوتاً‏‎ ‎‏أو إثباتاً، غیر وجیهة جدّاً.‏

ورابعة:‏ بأنّ المراد من ‏«الهلکة»‏ ربّما تکون الهلکة الدنیویّة، فیلزم أن یکون‏‎ ‎‏فی نفس جعل الوقوف، هلکةً اُخرویّة؛ لأنّ ترک الوقوف المستتبع للهلکة الدنیویّة،‏‎ ‎‏یوجب استحقاق العبد للعقوبة الاُخرویّة، وهذه الأخبار ناظرة إلی العقوبة الاُخرویّة‏‎ ‎‏مع قطع النظر عن أنفسها.‏

وفیه:‏ أنّ الهلکة أعمّ، ولا وجه لاختصاصها بالدنیویّة، لو لم تکن مختصّة‏‎ ‎‏بالاُخرویّة التی تجیء من قبل الأوامر والنواهی الاُخر غیر هذا الأمر، فحمل هذا‏‎ ‎‏الأمر علی النفسیّ، غیر تمام استظهاراً. بل والظاهر منها أنّه لیس نفسیّاً أصلاً ولو‏‎ ‎‏أمکن الالتزام به.‏

‏وإمّا یکون طریقیّاً؛ ولتنجیز الواقع المشتبه.‏

ففیه:‏ أنّ فی موارد الشکّ والشبهة، لیس الاقتحام فی الهلکة قطعیّاً وثابتاً؛‏‎ ‎‏لاحتمال کون مشتبه الحرمة حلالاً، وهکذا مشتبه الوجوب.‏

ودعویٰ:‏ أنّ الالتزام بکونه واجباً نفسیّاً وطریقیّاً بالنسبة إلی الواقعیّات،‏‎ ‎‏وعندئذٍ یکون الاقتحام قطعیّاً، وتوهّم امتناع الجمع بینهما، ممنوع کما سیحرّر إن‏‎ ‎‏شاء الله فی مسألة إیجاب التعلّم، غیر بعیدة ذاتاً، ولکنّها غیر صحیحة حسب‏‎ ‎‏الظاهر؛ فإنّ الأخباریّ أیضاً یصدّقنا فی أنّها لیست أوامر نفسیّة؛ حتّیٰ یلزم تعدّد‏‎ ‎‏العقاب فی صورة ارتکاب الشبهة، ووحدته فی صورة ارتکاب الحرام المعلوم، کما‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 165
‏لا یقول: بأنّها أوامر نفسیّة فقط، فلا یعاقب علی الواقع.‏

فعندئذٍ نقول:‏ إذا تبیّن ذلک، یتعیّن کون النظر فی الأوامر المتعلّقة بالتوقّف إلی‏‎ ‎‏التوقّف عن التقوّل والإفتاء، وقد مرّت شواهد کثیرة من الآثار علیه؛ وأنّه المناسب‏‎ ‎‏لشیوع إفتاء العامّة علیٰ طبق القیاس والاستحسان، ناظرین إلیٰ أنّه هو الواقع، وهو‏‎ ‎‏الحکم الإلهیّ الواقعیّ، فکانوا یظنّون أنّ القیاس والاستحسان کسائر الطرق‏‎ ‎‏العقلائیّة، وقد منع فی أحادیثنا عنه‏‎[6]‎‏ إلیٰ حدّ قیل: «بأنّ الأخبار المانعة تبلغ حدود‏‎ ‎‏خمسمائة حدیث».‏

‏ولعمری، إنّ المنصف فیما أوضحناه، یطمئنّ بصدق ما أبدعناه فی المسألة،‏‎ ‎‏من غیر حاجة إلیٰ تلک الوجوه البعیدة أوّلاً، أو غیر الواضحة عند الخصم ثانیاً، مع‏‎ ‎‏عدم إمکان حلّ معضلة التعلیل فی هذه الأخبار إلاّ بما ذکرناه.‏

‏ثمّ إنّ الأمر بالتوقّف عن الإفتاء، لا ینافی جواز الإفتاء فی محلّه علیٰ طبق‏‎ ‎‏الاُصول العملیّة؛ وذلک لأنّ هذه الطائفة تمنع عن إبراز الحکم الواقعیّ، وقد کان أبناء‏‎ ‎‏العامّة یعتقدون ـ بمقتضی الاستحسان والقیاس بالحکم الواقعیّ.‏

‏وعلیٰ هذا تنحلّ مشکلة المسألة فی بحوث الاجتهاد والتقلید، فافهم وتدبّر‏‎ ‎‏جیّداً.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 166

  • )) فرائد الاُصول 1 : 342 ـ 343.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 373 ـ 374، نهایة الأفکار 3: 243.
  • )) فرائد الاُصول 1 : 351، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 377.
  • )) فرائد الاُصول 1: 351، تهذیب الاُصول 2: 202.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری: 430.
  • )) الکافی 1: 54 ـ 58، وسائل الشیعة 27 : 35 ـ 62 ، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 6، جامع أحادیث الشیعة 1: 326 ـ 387، أبواب المقدّمات، الباب 7.