جولة وتحقیق : فی المراد من الأمر بالتوقّف
إنّ الأمر بالتوقّف عند الشبهة إمّا یکون إرشاداً، کما هو مختار الشیخ رحمه الله فی حلّ مشکلة المسألة فی المقام، وهو ممّا لا یمکن تصدیقه؛ لأنّه مضافاً إلیٰ کونه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 163
خلاف الأصل، یکون إرشاداً إلی ما یستقلّ به العقل، وهو ممنوعیّة الاقتحام فی الهلکة، فلا یلزم من حمله علی الإرشاد، جواز الأخذ بأخبار الحلّ والبراءة؛ ضرورة أنّ الاقتحام فی الهلکة، لیس فی ترکه الرجحان المجتمع مع ترخیصه، فیکون من قبیل الأمر المرشد إلیٰ طاعة الله ورسوله اللازمة عقلاً.
وإمّا یکون نفسیّاً، فیکون التوقّف واجباً من الواجبات الشرعیّة المستتبع للعقوبة والهلکة، وهذا غیر جائز؛ للزوم تعدّد العقاب فی صورة الاشتباه، ووحدته فی صورة ارتکاب الحرام المعلوم، فتأمّل.
وأمّا المناقشة فیهذا الاحتمال تارة: بأنّه لایعقل أن یکون نفسیّاً؛ لما لاهلکة مع قطع النظر عن هذا الإیجاب، ضرورة أنّ البراءات الثلاث، تنفی الهلکة والعقوبة الاُخرویّة. ففیه: أنّ من هذا الأمر والتعلیل، یستکشف عدم رضا الشرع بارتکاب الحرام المشتبه لو صادف، فیعلم منه تنجّز الواقع مع کونه فی حدّ نفسه محرّماً.
واُخریٰ: بأنّ لازمه تخصیص الکثیر. ففیه: أنّ لسان الدلیل المخصّص غیر معلوم، وخروج الکثیر ـ بعد کون الباقی تحت العامّ کثیراً غیر مستهجن.
وثالثة: بأنّ لسانه آبٍ عن التخصیص. وفیه ما مرّ من أنّ من المحتمل کون الشبهات الوجوبیّة والموضوعیّة، خارجةً بلسان الحکومة ونفی الهلکة فی مواردها، فلا تخصیص حتّیٰ یلزم الاستهجان، کما فی خروج کثیر من موارد الربا بلسان الحکومة، مع إباء أدلّته عن التقیید والتخصیص.
ولا حاجة إلیٰ إنکار شموله للشبهات الوجوبیّة؛ ضرورة أنّ فی ترک الواجب،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 164
ابتلاءً بالهلکة والعقوبة الاُخرویّة؛ واقتحاماً فیها. وعدم صدق «الوقوف» ممنوع وغیر لازم بعد عموم الکبریٰ.
فما فی کلام القوم صدراً وذیلاً من المناقشات فی الأخذ بتلک الطائفة ثبوتاً أو إثباتاً، غیر وجیهة جدّاً.
ورابعة: بأنّ المراد من «الهلکة» ربّما تکون الهلکة الدنیویّة، فیلزم أن یکون فی نفس جعل الوقوف، هلکةً اُخرویّة؛ لأنّ ترک الوقوف المستتبع للهلکة الدنیویّة، یوجب استحقاق العبد للعقوبة الاُخرویّة، وهذه الأخبار ناظرة إلی العقوبة الاُخرویّة مع قطع النظر عن أنفسها.
وفیه: أنّ الهلکة أعمّ، ولا وجه لاختصاصها بالدنیویّة، لو لم تکن مختصّة بالاُخرویّة التی تجیء من قبل الأوامر والنواهی الاُخر غیر هذا الأمر، فحمل هذا الأمر علی النفسیّ، غیر تمام استظهاراً. بل والظاهر منها أنّه لیس نفسیّاً أصلاً ولو أمکن الالتزام به.
وإمّا یکون طریقیّاً؛ ولتنجیز الواقع المشتبه.
ففیه: أنّ فی موارد الشکّ والشبهة، لیس الاقتحام فی الهلکة قطعیّاً وثابتاً؛ لاحتمال کون مشتبه الحرمة حلالاً، وهکذا مشتبه الوجوب.
ودعویٰ: أنّ الالتزام بکونه واجباً نفسیّاً وطریقیّاً بالنسبة إلی الواقعیّات، وعندئذٍ یکون الاقتحام قطعیّاً، وتوهّم امتناع الجمع بینهما، ممنوع کما سیحرّر إن شاء الله فی مسألة إیجاب التعلّم، غیر بعیدة ذاتاً، ولکنّها غیر صحیحة حسب الظاهر؛ فإنّ الأخباریّ أیضاً یصدّقنا فی أنّها لیست أوامر نفسیّة؛ حتّیٰ یلزم تعدّد العقاب فی صورة ارتکاب الشبهة، ووحدته فی صورة ارتکاب الحرام المعلوم، کما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 165
لا یقول: بأنّها أوامر نفسیّة فقط، فلا یعاقب علی الواقع.
فعندئذٍ نقول: إذا تبیّن ذلک، یتعیّن کون النظر فی الأوامر المتعلّقة بالتوقّف إلی التوقّف عن التقوّل والإفتاء، وقد مرّت شواهد کثیرة من الآثار علیه؛ وأنّه المناسب لشیوع إفتاء العامّة علیٰ طبق القیاس والاستحسان، ناظرین إلیٰ أنّه هو الواقع، وهو الحکم الإلهیّ الواقعیّ، فکانوا یظنّون أنّ القیاس والاستحسان کسائر الطرق العقلائیّة، وقد منع فی أحادیثنا عنه إلیٰ حدّ قیل: «بأنّ الأخبار المانعة تبلغ حدود خمسمائة حدیث».
ولعمری، إنّ المنصف فیما أوضحناه، یطمئنّ بصدق ما أبدعناه فی المسألة، من غیر حاجة إلیٰ تلک الوجوه البعیدة أوّلاً، أو غیر الواضحة عند الخصم ثانیاً، مع عدم إمکان حلّ معضلة التعلیل فی هذه الأخبار إلاّ بما ذکرناه.
ثمّ إنّ الأمر بالتوقّف عن الإفتاء، لا ینافی جواز الإفتاء فی محلّه علیٰ طبق الاُصول العملیّة؛ وذلک لأنّ هذه الطائفة تمنع عن إبراز الحکم الواقعیّ، وقد کان أبناء العامّة یعتقدون ـ بمقتضی الاستحسان والقیاس بالحکم الواقعیّ.
وعلیٰ هذا تنحلّ مشکلة المسألة فی بحوث الاجتهاد والتقلید، فافهم وتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 166