وأمّا العقل
وقبل الخوض فی کیفیّة تحریر الوجه العقلیّ لوجوب الاحتیاط، لابدّ من الإشارة إلیٰ نکتة: وهی أنّ من المحرّر عند الاُصولیّین؛ أنّ العلم الإجمالیّ یوجب تنجیز المعلوم بالإجمال ولو ارتکب طرفاً، أو بقی طرف، أوفنی سائر الأطراف، ویقولون ببقاء الأثر وإن لم یکن العلم بعد انعدام الطرف موجوداً.
فعلیٰ هذا، لو علم بأنّ المولیٰ له التکالیف الإلزامیّة المختلفة إجمالاً، وتبیّن له طائفة منها، ولم یتبیّن الاُخریٰ، یکون مقتضی القاعدة لزوم الاحتیاط بالنسبة إلی الباقی؛ لبقاء الأثر. نعم لو تبیّن فی الزمان المتأخّر خطأه فلا أثر؛ لما لا علم.
وأمّا توهّم الفرق بین ما إذا علم إجمالاً بحرمة أحد الإناءین، ثمّ انعدم أحدهما، وبین ما إذا علم بوجود الإلزامیات الشرعیّة، ثمّ تبیّنت تلک الإلزامیّات بمقدار یحتمل کون المعلوم بالإجمال بمقدارها، فإنّه فی الأوّل یبقی الأثر، دون الثانی؛ لأنّه من قبیل تبیّن کون المحرّم من الإناءین الإناء الشرقیّ، فغیر جیّد؛ لأنّ ما نحن فیه من قبیل ما إذا علم بحرمة أحد الإناءین، ویحتمل حرمة المجموع، ثمّ بعد ذلک تبیّن حرمة أحدهما المعیّن، ویحتمل کون المحرّم هو الحرام المحتمل، لا المعلوم، فإنّ المحرّم الواقعیّ المعلوم، باقٍ علیٰ حاله وعلیٰ أثره.
وغیر خفیّ : أنّ للشرع الترخیص فی بعض الأطراف؛ حسبما تحرّر فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 183
محلّه، فالإشکال علی الأخباریّین نقضاً بالشبهات الموضوعیّة والوجوبیّة، فی غیر محلّه؛ لأنّ مقتضیٰ بعض الوجوه عندهم، جواز الترخیص، ورخصة الشرع فیها.
إذا تبیّنت هذه الوجیزة المحتویة علیٰ مقدّمات، فللاُصولیّ دعوی العلم الإجمالیّ تأییداً للأخباریّین فی الشبهات التحریمیّة، ولمحمّد الأسترابادیّ مطلقاً: بأنّ الإسلام طلع و تضمّن الإلزامیّات التحریمیّة والإیجابیّة الواقعیّة غیر المتغیّرة باختلاف الطرق والأمارات، والمحفوظة علیٰ واقعها الأوّلی، فمقتضی العلم الإجمالیّ فی ناحیة الإلزامیّات الإیجابیّة، منفیّ مثلاً؛ لأنّ المقدار المعلوم بالإجمال، موجود فی الطرق والأمارات القائمة البالغة، والمحتملات الزائدة مثلاً مورد البراءة حسب الاتفاق؛ لجواز ترخیص الشرع فی مثل المقام.
وأمّا فی ناحیة الإلزامیّات التحریمیّة، فمقتضی العلم الإجمالیّ، لزوم الاجتناب عن المحتملات والشبهات؛ ضرورة أنّ صورة العلم الإجمالیّ أوّلاً صورة قضیّة منفصلة مانعة الخلّو، لا حقیقیّة، فإذا وصلت الطرق والأمارات بمقدار المعلوم بالإجمال، یکون الزائد لازم الاجتناب؛ لاحتمال کون هذا الزائد هو الواصل بتلک الطرق، والمعلوم بالإجمال بعدُ باقٍ فی ناحیة المحتملات، ویکون منجّزاً.
فما فی کلام الاُصولیّین: من انحلال العلم حقیقة تارة، أو حکماً اُخریٰ؛ وأنّ الزائد غیر منجّز، غیر صحیح؛ ضرورة أنّ المراد من «الانحلال» إن کان عدم وجود القضیّة المنفصلة علیٰ حالها، فهو حقّ لا ریب فیه، ویکون الانحلال حقیقیّاً؛ لما لا علم تکویناً بالإجمال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 184
وإن کان المراد منه انحلال العلم وذهاب أثره، فهو غیر جیّد کما مرّ؛ ضرورة أنّ من الممکن أن تکون الطرق الواصلة، موجبةً لتنجّز المحتملات غیر المنجّزة بالعلم، ویکون المنجّز بالعلم باقیاً زائداً علیٰ مقدار الطرق والاُصول المثبتة؛ ضرورة أنّ مجرّد کون المعلوم بالإجمال، دائراً بین الأقلّ والأکثر لا یکفی؛ لکون المعلوم بالإجمال منحصراً فیما هو الواصل بالطرق والأمارات، بعد احتمال کون الواصل بها هو الأکثر المحتمل، فیکون ما یستحقّ العقوبة علیه باقیاً علیٰ عهدته.
نعم، للشرع الترخیص فی الزائد، ومشکلة الترخیص فی هذه الموارد، منحلّة فی مسألة کیفیّة الجمع بین الحکم الواقعیّ والظاهریّ الذی مضیٰ تحقیقه فی مباحث الظنّ، ولولا ترخیصه لکان حکم العقل بقاء أثر العلم حتّیٰ فی الشبهات الوجوبیّة، کما اُشیر إلیه، وتکون مقالة الأسترابادیّ أیضاً مطابقة للقواعد، ولا تجری البراءة العقلیّة؛ لوجود البیان، وهو العلم الإجمالیّ بأثره، لا بوجوده.
وأمّا المناقشة فی بقاء الأثر مع ذهاب علّته وهو العلم، فقد انحلّت فی محلّها، کما علیه جماعة من الاُصولیّین؛ ضرورة اتفاقهم علیٰ ممنوعیّة ارتکاب الإناء الثانی بعد ارتکاب الإناء الأوّل، مع ذهاب العلم الذی هو السبب للتنجیز، وهکذا فی موارد الإکراه والاضطرار والانعدام وغیرها.
ومن الغریب توغّل الاُصولیّین فیما هو بحث علمیّ، وإهمالهم فیما هو المهمّ بالبحث!! فقد توغّلوا فی أنّ الانحلال حکمیّ، أو حقیقیّ، وأنّ میزان الانحلال ماذا؟ وأهملوا أنّ بعد الاطلاع علی المحرّمات الکثیرة فی الشرع، فهل هو یوجب تمامیّة جریان قبح العقاب بلا بیان، أم لا؛ لتمامیة البیان عقلاً؟
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 185