الأمر الأوّل : حول الاحتیاط فی التوصّلیات
لا بحث فی الاحتیاط فی التوصّلیات إذا کان ممکناً؛ سواء کان الأمر دائراً بین الوجوب والندب، والنهی بین التحریم والکراهة، أو دار کلّ واحد منهما بین الوجود والعدم؛ لأنّه إذا احتاط وتبیّن عدم الأمر والنهی، لم یقع فی إشکال عقلیّ، ولا شرعیّ.
ولا تختصّ موارد الاحتیاط بمواضع احتمال الأمر أو النهی الإلزامیّین، بل احتمال الأمر الندبیّ أو النهی التنزیهیّ یکفی، من غیر حاجة إلی الأزید منه، فما تریٰ فی کلمات القوم، لا یخلو من قصور.
هذا، ومن المحرّر والمحقّق: أنّه یجوز قصد القربة فی موارد التوصّلیات، وهکذا فیما نحن فیه؛ لما سیأتی من أنّ القربة المعتبرة فی التعبّدیات إلزاماً، وفی التوصّلیات اختیاراً، من وادٍ واحد، وتطبیق العناوین الإلهیّة علی الانبعاث
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 223
والانزجار بید العباد، ویکون بذلک عبادة، من غیر دخالة الأمر والنهی.
ثمّ إنّه من المحتمل دعویٰ إمکان کشف الأمر الشرعیّ بقاعدة الملازمة، فیکون الاحتیاط المستحسن عقلاً فی التوصّلیات مورد الأمر الإلهیّ، فلا تکون الواقعة خالیة من الأمر.
وفیه: ـ مضافاً إلیٰ ما تحرّر منّا من أنّها قاعدة لا أساس لها، ومن الأکاذیب التی لا واقعیّة لها. وتخیّل خروج ما نحن فیه عنها؛ لکونه من قبیل حسن الطاعة، وقبح العصیان، کما فی کلام العلاّمة النائینیّ وبعض تلامذته، من التخیّلات الباطلة المحرّر فسادها فی محلّها أنّ کشف الأمر بعنوان «الاحتیاط» بوجه یکون أمراً شرعیّاً، یناقض ذات الموضوع وهو الاحتیاط، فإنّ الاحتیاط معناه ینتزع عن الانبعاث من الأمر الاحتمالیّ أو النهی الاحتمالیّ، فمع وجود الأمر بالاحتیاط لایعقل الانبعاث عن الأمر الاحتیاطیّ، ویلزم من وجوده عدمه؛ لأنّ حسنه منوط بکونه احتیاطاً، فیلزم من الانبعاث عن الأمر المتوجّه إلی الاحتیاط، فقدان ذلک الأمر، کما هو الظاهر.
وأمّا دعویٰ: أنّه یکشف بالقاعدة أمر یستدعی الانبعاث عن احتمال الأمر الواقعیّ، فهی ـ مضافاً إلی امتناعها؛ لما تحرّر منّا فی المجلد الأوّل أنّه لا یعقل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 224
أن یدعو الأمر إلی الانبعاث عن الأمر الآخر؛ للزوم تراکم البعثین علی الواحد، ولا یعقل ذلک، وتنتهی النتیجة إلی الانبعاث عن الأمر المعلوم، لا المحتمل.
هذا مع أنّه لا أثر بعد ذلک لهذا الأمر المعلوم؛ لأنّ المقصود من کشف الأمر حلّ مشکلة الانبعاث عن الأمر الاحتمالیّ، ولو کان الأمر المعلوم یدعو إلی الانبعاث عن الأمر الاحتمالیّ، فیلزم لغویّة کشفه، فاغتنم جیّداً.
وبالجملة تحصّل: أنّ البحث بحسب مقام الثبوت یقع أوّلاً: فی أنّه هل یعقل أن یکون الاحتیاط واجباً شرعاً أو مندوباً نفسیّاً، أم لا؟
وعلی التقدیر الثانی: فهل یفرّق بین العبادیّات والتوصّلیات، أم لا؟
وعلیٰ کلّ تقدیر: هل الشرع تصرّف تصدیقاً، وأوجب نفسیّاً أو ندب هذا العنوان مطلقاً، أو فی الجملة، أم لا؟
وحیث قد عرفت إلیٰ هنا امتناع کونه واجباً أو ندباً نفسیّاً، سواء فی ذلک أن یکون مستنده قاعدة الملازمة، أوالأخبارالخاصّة، فلاتصل النوبة إلیٰ سائر البحوث.
نعم، حیث إنّ فی العبادات تکون إشکالات اُخر، لا بأس بالإشارة إلیها، ثمّ بعد ذلک ینظر إلی الأخبار الخاصّة؛ وأنّها موقفها ماذا؟ بعد الامتناع المذکور، وبعد الفراغ من عدم کونها منجّزةً للأحکام الواقعیّة؛ أی وبعد عدم کونها طریقیّة کسائر الأوامر الطریقیّة؛ لما عرفت: من أنّ الالتزام بطریقیّتها، ینافی القول بالبراءة الشرعیّة إمّا دلالة، أو ترجیحاً، علی التفصیل المحرّر سابقاً، فلا تخلط.
وهم ودفع
لا منع ثبوتاً من إیجاب مشکوک الوجوب، وتحریم مشکوک الحرمة، وعند
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 225
ذلک یحصل الاحتیاط المطلوب الواقعیّ أحیاناً؛ لما لا یعتبر فی الاحتیاط الانبعاث عن الأمر المحتمل، أو الانزجار عن النهی المحتمل، لو لم نقل: بعدم اعتبار الانبعاث والانزجار عن الأمر والنهی مطلقاً، بل لو لم یکن ذلک من الممتنعات العقلیّة.
وفیه : کما لا منع ثبوتاً عمّا قیل، لا منع من إیجاب محتمل الحرمة، وتحریم محتمل الوجوب، بل الأوّل ممنوع؛ لامتناع أن یکون المطلق واجباً، والمقیّد واجباً آخر؛ للزوم اجتماع المثلین علیٰ ما تحرّر، بخلاف الفرض الأخیر؛ لأنّ التقیید جائز لو لم یکن بین العنوانین عموم من وجه.
هذا، وحیث إنّ حقیقة الاحتیاط هی ملاحظة الواقع فی مقام العمل، فلابدّ من وجود احتمال الأمر، والالتفات إلیه، والانبعاث عنه، وهکذا فی جانب النهی.
نعم، الانبعاث والانزجار یستند أکثر الأحیان إلی المبادئ النفسانیّة، وتختلف الأفراد والآحاد من هذه الجهة، وربّما لا یکون الأمر والنهی دخیلین، وربّما یکون لهما الدخالة فی الحرکة نحو المطلوب، فلا یکونان علّة تامّة، کما هو ظاهر جمع من الأعلام، ولا غیر دخیلین علی الإطلاق، کما ذهب إلیه العلمان: البروجردیّ والوالد ـ عفی عنهما ؛ فإنّ «خیر الاُمور أوسطها» کما لا یخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 226