المقصد التاسع فی البراءة

الأمر الأوّل : حول الاحتیاط فی التوصّلیات

الأمر الأوّل : حول الاحتیاط فی التوصّلیات

‏ ‏

‏لا بحث فی الاحتیاط فی التوصّلیات إذا کان ممکناً؛ سواء کان الأمر دائراً‏‎ ‎‏بین الوجوب والندب، والنهی بین التحریم والکراهة، أو دار کلّ واحد منهما بین‏‎ ‎‏الوجود والعدم؛ لأنّه إذا احتاط وتبیّن عدم الأمر والنهی، لم یقع فی إشکال عقلیّ،‏‎ ‎‏ولا شرعیّ.‏

‏ولا تختصّ موارد الاحتیاط بمواضع احتمال الأمر أو النهی الإلزامیّین، بل‏‎ ‎‏احتمال الأمر الندبیّ أو النهی التنزیهیّ یکفی، من غیر حاجة إلی الأزید منه، فما‏‎ ‎‏تریٰ فی کلمات القوم‏‎[1]‎‏، لا یخلو من قصور.‏

‏هذا، ومن المحرّر والمحقّق: أنّه یجوز قصد القربة فی موارد التوصّلیات،‏‎ ‎‏وهکذا فیما نحن فیه؛ لما سیأتی من أنّ القربة المعتبرة فی التعبّدیات إلزاماً، وفی‏‎ ‎‏التوصّلیات اختیاراً، من وادٍ واحد، وتطبیق العناوین الإلهیّة علی الانبعاث‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 223
‏والانزجار بید العباد، ویکون بذلک عبادة، من غیر دخالة الأمر والنهی‏‎[2]‎‏.‏

‏ثمّ إنّه من المحتمل دعویٰ إمکان کشف الأمر الشرعیّ بقاعدة الملازمة،‏‎ ‎‏فیکون الاحتیاط المستحسن عقلاً فی التوصّلیات مورد الأمر الإلهیّ، فلا تکون‏‎ ‎‏الواقعة خالیة من الأمر‏‎[3]‎‏.‏

وفیه:‏ ـ مضافاً إلیٰ ما تحرّر منّا من أنّها قاعدة لا أساس لها، ومن الأکاذیب‏‎ ‎‏التی لا واقعیّة لها‏‎[4]‎‏. وتخیّل خروج ما نحن فیه عنها؛ لکونه من قبیل حسن الطاعة،‏‎ ‎‏وقبح العصیان، کما فی کلام العلاّمة النائینیّ‏‎[5]‎‏ وبعض تلامذته‏‎[6]‎‏، من التخیّلات‏‎ ‎‏الباطلة المحرّر فسادها فی محلّها‏‎[7]‎‏ أنّ کشف الأمر بعنوان «الاحتیاط» بوجه‏‎ ‎‏یکون أمراً شرعیّاً، یناقض ذات الموضوع وهو الاحتیاط، فإنّ الاحتیاط معناه‏‎ ‎‏ینتزع عن الانبعاث من الأمر الاحتمالیّ أو النهی الاحتمالیّ، فمع وجود الأمر‏‎ ‎‏بالاحتیاط لایعقل الانبعاث عن الأمر الاحتیاطیّ، ویلزم من وجوده عدمه؛ لأنّ‏‎ ‎‏حسنه منوط بکونه احتیاطاً، فیلزم من الانبعاث عن الأمر المتوجّه إلی الاحتیاط،‏‎ ‎‏فقدان ذلک الأمر، کما هو الظاهر.‏

وأمّا دعویٰ:‏ أنّه یکشف بالقاعدة أمر یستدعی الانبعاث عن احتمال الأمر‏‎ ‎‏الواقعیّ‏‎[8]‎‏، فهی ـ مضافاً إلی امتناعها؛ لما تحرّر منّا فی المجلد الأوّل‏‎[9]‎‏ أنّه لا یعقل‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 224
‏أن یدعو الأمر إلی الانبعاث عن الأمر الآخر؛ للزوم تراکم البعثین علی الواحد، ولا‏‎ ‎‏یعقل ذلک، وتنتهی النتیجة إلی الانبعاث عن الأمر المعلوم، لا المحتمل.‏

‏هذا مع أنّه لا أثر بعد ذلک لهذا الأمر المعلوم؛ لأنّ المقصود من کشف الأمر‏‎ ‎‏حلّ مشکلة الانبعاث عن الأمر الاحتمالیّ، ولو کان الأمر المعلوم یدعو إلی‏‎ ‎‏الانبعاث عن الأمر الاحتمالیّ، فیلزم لغویّة کشفه، فاغتنم جیّداً.‏

وبالجملة تحصّل:‏ أنّ البحث بحسب مقام الثبوت یقع أوّلاً: فی أنّه هل یعقل‏‎ ‎‏أن یکون الاحتیاط واجباً شرعاً أو مندوباً نفسیّاً، أم لا؟‏

‏وعلی التقدیر الثانی: فهل یفرّق بین العبادیّات والتوصّلیات، أم لا؟‏

‏وعلیٰ کلّ تقدیر: هل الشرع تصرّف تصدیقاً، وأوجب نفسیّاً أو ندب هذا‏‎ ‎‏العنوان مطلقاً، أو فی الجملة، أم لا؟‏

‏وحیث قد عرفت إلیٰ هنا امتناع کونه واجباً أو ندباً نفسیّاً، سواء فی ذلک أن‏‎ ‎‏یکون مستنده قاعدة الملازمة، أوالأخبارالخاصّة، فلاتصل النوبة إلیٰ سائر البحوث.‏

‏نعم، حیث إنّ فی العبادات تکون إشکالات اُخر، لا بأس بالإشارة إلیها، ثمّ‏‎ ‎‏بعد ذلک ینظر إلی الأخبار الخاصّة‏‎[10]‎‏؛ وأنّها موقفها ماذا؟ بعد الامتناع المذکور، وبعد‏‎ ‎‏الفراغ من عدم کونها منجّزةً للأحکام الواقعیّة؛ أی وبعد عدم کونها طریقیّة کسائر‏‎ ‎‏الأوامر الطریقیّة؛ لما عرفت: من أنّ الالتزام بطریقیّتها، ینافی القول بالبراءة الشرعیّة‏‎ ‎‏إمّا دلالة، أو ترجیحاً، علی التفصیل المحرّر سابقاً‏‎[11]‎‏، فلا تخلط.‏

‏ ‏

وهم ودفع

‏ ‏

‏لا منع ثبوتاً من إیجاب مشکوک الوجوب، وتحریم مشکوک الحرمة، وعند‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 225
‏ذلک یحصل الاحتیاط المطلوب الواقعیّ أحیاناً؛ لما لا یعتبر فی الاحتیاط الانبعاث‏‎ ‎‏عن الأمر المحتمل، أو الانزجار عن النهی المحتمل، لو لم نقل: بعدم اعتبار الانبعاث‏‎ ‎‏والانزجار عن الأمر والنهی مطلقاً، بل لو لم یکن ذلک من الممتنعات العقلیّة.‏

وفیه :‏ کما لا منع ثبوتاً عمّا قیل، لا منع من إیجاب محتمل الحرمة، وتحریم‏‎ ‎‏محتمل الوجوب، بل الأوّل ممنوع؛ لامتناع أن یکون المطلق واجباً، والمقیّد واجباً‏‎ ‎‏آخر؛ للزوم اجتماع المثلین علیٰ ما تحرّر‏‎[12]‎‏، بخلاف الفرض الأخیر؛ لأنّ التقیید‏‎ ‎‏جائز لو لم یکن بین العنوانین عموم من وجه.‏

‏هذا، وحیث إنّ حقیقة الاحتیاط هی ملاحظة الواقع فی مقام العمل، فلابدّ من‏‎ ‎‏وجود احتمال الأمر، والالتفات إلیه، والانبعاث عنه، وهکذا فی جانب النهی.‏

‏نعم، الانبعاث والانزجار یستند أکثر الأحیان إلی المبادئ النفسانیّة، وتختلف‏‎ ‎‏الأفراد والآحاد من هذه الجهة، وربّما لا یکون الأمر والنهی دخیلین، وربّما یکون‏‎ ‎‏لهما الدخالة فی الحرکة نحو المطلوب، فلا یکونان علّة تامّة، کما هو ظاهر جمع‏‎ ‎‏من الأعلام، ولا غیر دخیلین علی الإطلاق، کما ذهب إلیه العلمان: البروجردیّ‏‎[13]‎‎ ‎‏والوالد ـ عفی عنهما ‏‎[14]‎‏؛ فإنّ ‏«خیر الاُمور أوسطها»‏ کما لا یخفیٰ.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 226

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 398 ـ 399 ، نهایة الأفکار 3 : 259 ـ 260 و 274 ـ 276 .
  • )) یأتی فی الجزء الثامن : 200 .
  • )) لاحظ بحر الفوائد 2 : 50 / السطر 11 ـ 22 .
  • )) تقدّم فی الجزء الرابع : 353، وفی الجزء السادس : 74 ـ 77 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 399.
  • )) منتهی الاُصول 2 : 208.
  • )) تقدّم فی الجزء السادس : 75 .
  • )) لاحظ بحر الفوائد 2 : 20 / السطر 22.
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 136 ـ 138 .
  • )) یأتی فی الصفحة 232 ـ 237 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 176 ـ 178 .
  • )) تقدّم فی الجزء الخامس : 466 .
  • )) نهایة الاُصول : 431 ـ 432 .
  • )) أنوار الهدایة 2 : 126 ـ 127، تهذیب الاُصول 2: 231.