المقصد التاسع فی البراءة

خاتمة المطاف فی أخبار «من بلغ»

خاتمة المطاف فی أخبار «من بلغ»

‏ ‏

‏وهو کشف الأمر بالنسبة إلیٰ عنوان الاحتیاط من أخبار: ‏«من بلغه...»‏ أو‏‎ ‎‏کشف الأمر بالنسبة إلی المورد، فتکون العبادة المشکوک فیها والمجهول أمرها،‏‎ ‎‏مورد الأمر بتلک الأخبار، وهکذا فی التوصّلیات، فترتفع تلک الشبهة التی أبدعناها،‏‎ ‎‏ولأجل ذلک لابدّ من النظر إلیٰ تلک الأخبار وأحادیثها. وحیث قد عرفت امتناع‏‎ ‎‏الاحتمال الأوّل ـ وهو کشف کون الاحتیاط بعنوانه مورد الأمر فی هذه الأخبار ‏‎ ‎‏یتعیّن الاحتمال الثانی: وهو کشف وجود الأمر شرعاً فی موارد الاحتیاط فی‏‎ ‎‏التعبّدیات والتوصّلیات.‏

‏فدونک نبذة من تلک الأحادیث الکثیرة المجموعة فی الباب (18) من‏‎ ‎‏مقدّمات «الوسائل»‏‎[1]‎‏ وباب (9) من «جامع الأحادیث»‏‎[2]‎‏ وهی مع کثرتها البالغة‏‎ ‎‏أحیاناً إلی الثمانیة أو التسعة مثلاً، أکثرها غیر نقیّ الإسناد؛ ومن الکتب غیر‏‎ ‎‏المتواترة.‏

‏نعم، فیها خبر معتبر فی «الکافی» عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 232
‏عمیر، عن هشام بن سالم عن أبی عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ قال: ‏«من سمع شیئاً من الثواب علیٰ‎ ‎شیء فصنعه، کان له وإن لم یکن علیٰ ما بلغه‎[3]‎‏» ‏‎[4]‎‏. ‏

‏و خبر عن البرقیّ فی «المحاسن» عن علیّ بن الحکم، عن هشام بن سالم‏‎ ‎‏عن أبی عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ قال: ‏«من بلغه عن النبیّ ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ شیء من الثواب، ففعل ذلک‏‎ ‎‏طلب قول النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ کان له ذلک الثواب وإن کان النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏لم یقله»‏‎[5]‎‏.‏

‏والمناقشة فی حجّیة الخبر الواحد هنا؛ لکونه مربوطاً بالاُصول‏‎ ‎‏الاعتقادیّة‏‎[6]‎‏، غیر جیّدة جدّاً. وأسوأ حالاً توهّم تواتر أخبار المسألة إجمالاً‏‎[7]‎‏، أو‏‎ ‎‏معنویّاً‏‎[8]‎‏، والأمر سهل.‏

‏وقبل الخوض فیما هو مفادها عندنا، نشیر أوّلاً إلیٰ نکتة: وهی أنّها أجنبیّة‏‎ ‎‏عمّا هو المطلوب وهو کشف الأمر فی موارد الاحتیاط؛ لاختصاص موردها بمواقع‏‎ ‎‏بلوغ الثواب علیٰ عمل، فاُتی به رجاء ذلک الثواب، وفیما نحن فیه لیس البحث‏‎ ‎‏حول الاحتیاط فی موارد بلوغ الثواب، بل المبحوث عنه أمر آخر أجنبیّ عنه؛ ولو‏‎ ‎‏کان یکشف فرضاً وجود الأمر فی موارد الرجاء والاحتیاط البالغ علیه الثواب.‏

‏کما لا یمکن کشف صحّة العبادة الرجائیّة بهذه الأخبار؛ لأنّ موردها فرض‏‎ ‎‏بلوغ الثواب، وما نحن فیه غیر مربوط بذلک، وسیظهر إن شاء الله مفاد هذه الأخبار‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 233
‏من ذی قبل.‏

‏إذا عرفت هذه فاعلم: أنّ إطالة الکلام حول هذه الأخبار هنا، غیر جیّدة،‏‎ ‎‏وإیجاد الاحتمالات الکثیرة المختلفة إلی حدّ یقال: إنّ هذه الأخبار بصدد حجّیة‏‎ ‎‏الضعاف من الأخبار فی المسنونات، وإنّه لا حاجة إلی الإسناد فیها‏‎[9]‎‏.‏

‏أو بصدد إلغاء قیود معتبرة فی حجّیة الخبر الواحد، سواء فیه المسنونات‏‎ ‎‏والمکروهات البالغ الثواب علیٰ ترکها؛ لعدم خصوصیّة لها فی جانب المندوبات‏‎ ‎‏والأفعال‏‎[10]‎‏.‏

‏أو هی تعمّ موارد الأخبار المتضمّنة لوجوب شیء، ولزوم فعل مجعول علیه‏‎ ‎‏الثواب، فتکون دلیلاً علیٰ حجّیة سندها، فیکون لازمها وجوب ذلک الشیء حسب‏‎ ‎‏الإطلاق المشاهد فیها‏‎[11]‎‏.‏

‏أو هی بصدد إحداث الأمر متعلّقاً بالفعل، أو النهی متعلّقاً بالترک واقعاً،‏‎ ‎‏فیکون الثواب المجعول بالغاً إلیه فی موارد الکذب، وغیر بالغ ذلک الثواب فی موارد‏‎ ‎‏وصول الخبر بالسند المعتبر؛ لأنّها بصدد الأخبار الضعیفة ذاتاً غیر ذات السند رأساً،‏‎ ‎‏أو ذات سند ضعیف، فلا تعمّ المندوبات الثابتة بالحجج الشرعیّة، ولا یبلغ إلیهم‏‎ ‎‏الثواب المجعول فیها؛ لاختصاصها بغیرها، کما هو صریح کلامهم‏‎[12]‎‏.‏

‏أو غیر ذلک‏‎[13]‎‏، فکلّه الغفلة عن حقیقة الحال والمقال، وتبعید للمسافة،‏‎ ‎‏وانصراف عن هذه المآثیر.‏

‏والذی یظهر لی یتبیّن بعد التوجّه والالتفات إلیٰ أمرین:‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 234
أحدهما:‏ مسألة عقلیّة؛ وهی أنّ مقتضیٰ طائفة من البراهین وجملة من‏‎ ‎‏الأخبار، أنّ الثواب یتبع النیّات، حتّیٰ أنّ الخلود فی الجنّة والنار تابعها‏‎[14]‎‏، وهذه‏‎ ‎‏الأخبار من جملة الأخبار الشاهدة علیٰ أنّ النیّة والقصد والرجاء والآمال، دخیلة‏‎ ‎‏فی وصول الثواب إلیه، وأنّ الإنسان یثاب علی النیّات؛ ولو کان أقلّ من الثواب‏‎ ‎‏البالغ إلیه من النیّة المقرونة بالعمل الصالح.‏

‏فهذه الأخبار حکایة وإخبار عن تلک القضیّة، فلو أتیٰ بفعل برجاء ثواب‏‎ ‎‏کذائیّ، وکان ذلک فی نیّته وقصده عند الإتیان بذلک العمل، فیصل إلیه ذلک وإن لم‏‎ ‎‏یقل به الرسول الأعظم ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لأنّ المناط لیس علیٰ قوله. ولا یلزم منه الجزاف؛‏‎ ‎‏لأنّ تلک النیّة الصالحة تستتبع ذلک الثواب المأمول حسب اطلاع الرسول ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏.‏

ثانیهما:‏ أنّ فی إمضاء الشرع الطرق العقلائیّة ـ من الظواهر إلیٰ خبر الواحد،‏‎ ‎‏وغیر ذلک ممّا یختلف إصابة وخطأً موجباً لمناقشة جمع: بأنّ فی موارد التخلّف‏‎ ‎‏والخطأ، تضییعاً لحقّ العاملین السالکین تلک السبل والمسالک، ولو کان الشرع‏‎ ‎‏أوجب الاحتیاط فی الجملة مثلاً، لما وقعت الاُمّة فی تفویت المصالح وغیر ذلک.‏

‏وعند الالتفات إلیٰ هذه القضیّة مع ما سلف، نرجع إلی الأخبار الواردة فی‏‎ ‎‏المسألة، فنجد أن فیها:‏

أوّلاً:‏ کلمة ‏«بلغه»‏ الظاهرة فی أنّ البلوغ، لابدّ وأن یکون علیٰ وجه متعارف،‏‎ ‎‏وإلاّ فمجرّد سماع الحدیث لو کان بلوغاً، للزم أن تشمل هذه الأخبار صورة العلم‏‎ ‎‏بالکذب؛ لأنّ فی الخبرین المذکورین، لیس إلاّ الإتیان بالفعل بعد البلوغ، ویحصل‏‎ ‎‏له الرجاء إذا کان یشمل الخبران صورةَ العلم بالکذب، کما فیما یقول به العامّة من‏‎ ‎‏التصویب فی الموضوع.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 235
وثانیاً:‏ المقصود من قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی الخبر الثانی: ‏«وإن کان النبیّ ‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏لم یقله» أی وإن کان النبیّ لم یقل بالثواب جزاءً لذلک الفعل، لا أنّه وإن کان‏‎ ‎‏النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لم یقل أصل الفعل والصنع والعمل، ولذلک تریٰ فی الخبر الأوّل ‏«وإن‎ ‎لم یکن علیٰ ما بلغه»‏ أی لم یکن ما أتیٰ به علیٰ ما بلغه من الثواب، ولکن کان‏‎ ‎‏الفعل ممّا قاله؛ وأتیٰ به وهو واقع.‏

‏ویؤیّد ذلک روایة محمّد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ یقول: ‏«من‎ ‎بلغه ثواب من الله علیٰ عمل، فعمل ذلک العمل التماس ذلک الثواب، اُوتیه وإن لم‎ ‎یکن الحدیث کما بلغه»‎[15]‎‏ أی متضمّناً لذلک الثواب، ولکنّه حدیث صادر صحیح.‏

فبالجملة:‏ بعد الخوض فی هذه الطائفة من الأخبار یظهر: أنّ النظر فیها إلیٰ‏‎ ‎‏أنّ وصول الثواب، لیس تابعاً لقوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ وأمّا العمل الذی یأتی به وقد بلغه، فلابدّ‏‎ ‎‏وأن یکون بالغاً إلیه بنحو متعارف من البلوغ، ویکون المفروض فی هذه الأخبار؛‏‎ ‎‏أنّ ذلک الفعل قد بلغ مطابقاً للواقع، دون ثوابه، فإنّه بلغ علیٰ خلاف الواقع.‏

‏وأمّا إذا لم یکن الفعل مطابقاً للواقع، فهو خارج ظاهراً عن نطاق هذه‏‎ ‎‏الأخبار، کما أنّ من أتیٰ فی الشبهات البدویّة غیر البالغ إلیه شیء عن رسول‏‎ ‎‏الله  ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ ولکنّه أتیٰ برجاء المطلوبیّة یثاب، ولکنّه أیضاً خارج عن هذه الأخبار.‏

فما قیل:‏ «بأنّه تثبت بها حجّیة الخبر، فیجوز الإفتاء علیٰ طبقه»‏‎[16]‎‏ أو «یثبت‏‎ ‎‏بها الأمر الخاصّ»‏‎[17]‎‏ فهو بعید عنها، أجنبیّ جدّاً منها.‏

‏ولا حاجة إلیٰ إطالة البحث حولها بعد ما عرفت: أنّها أجنبیّة عن المسألة‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 236
‏الاُصولیّة؛ وهی صحّة العبادة فی موارد احتمال الأمر، فإنّ العبادة ـ حسب التحقیق‏‎ ‎‏عندنا صحیحة عند الاحتمال وإن لم یکن أمر واقعاً، ولکن ذلک لأجل الجهات‏‎ ‎‏المحرّرة الاُخر‏‎[18]‎‏، دون هذه الأخبار الواردة فی جهة خاصّة، فلا تخلط.‏

ومن هنا یظهر:‏ أنّ فی موارد البلوغ الصحیحة غیر المجعول علیها الثواب،‏‎ ‎‏یثاب المکلّف لأجل ما ورد من الثواب علی النیّات، أو قامت البراهین العقلیّة، وأمّا‏‎ ‎‏هذه الأخبار فهی مخصوصة بموارد جعل الثواب علی العمل. ومجرّد قصد الثواب‏‎ ‎‏وإن لم یصل إلیه معنی مجعول، لا یکفی شمول هذه الأخبار له.‏

‏وممّا تبیّن فی هذه الخلاصة من البحث، یظهر مواضع کثیرة من الضعف‏‎ ‎‏والخلط فی کلمات القوم صدراً وذیلاً.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 237

  • )) وسائل الشیعة 1: 80 ـ 82 ، کتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.
  • )) جامع أحادیث الشیعة 1: 409 ـ 410، أبواب المقدّمات، الباب 10.
  • * ـ وفی نسخة : «کما بلغه» [منه قدس سره].
  • )) الکافی 2 : 87 / 1، وسائل الشیعة 1: 81 ـ 82 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18، الحدیث6.
  • )) المحاسن 1: 25 / 1، وسائل الشیعة 1: 81 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18، الحدیث4.
  • )) مفاتیح الاُصول : 348 / السطر 18 ـ 19، ولاحظ أوثق الوسائل: 300 / السطر 35.
  • )) حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 4: 124.
  • )) أوثق الوسائل: 300 / السطر 25 ـ 26.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 413، منتهی الاُصول 2: 212.
  • )) الفصول الغرویّة: 306 / السطر 18 ـ 21.
  • )) أوثق الوسائل: 303 / السطر 15 ـ 17، حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 4: 125 ـ 126.
  • )) نهایة الأفکار 3: 277.
  • )) لاحظ فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 409.
  • )) وسائل الشیعة 1 : 48 ـ 50 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات ، الباب 5 ، الحدیث 6 و 10، والباب6، الحدیث 4 و 9.
  • )) الکافی 2 : 87 / 2، وسائل الشیعة 1: 82 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18، الحدیث7.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 413 ـ 414.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 414 ـ 415.
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 110 ـ 111 .