خاتمة المطاف فی أخبار «من بلغ»
وهو کشف الأمر بالنسبة إلیٰ عنوان الاحتیاط من أخبار: «من بلغه...» أو کشف الأمر بالنسبة إلی المورد، فتکون العبادة المشکوک فیها والمجهول أمرها، مورد الأمر بتلک الأخبار، وهکذا فی التوصّلیات، فترتفع تلک الشبهة التی أبدعناها، ولأجل ذلک لابدّ من النظر إلیٰ تلک الأخبار وأحادیثها. وحیث قد عرفت امتناع الاحتمال الأوّل ـ وهو کشف کون الاحتیاط بعنوانه مورد الأمر فی هذه الأخبار یتعیّن الاحتمال الثانی: وهو کشف وجود الأمر شرعاً فی موارد الاحتیاط فی التعبّدیات والتوصّلیات.
فدونک نبذة من تلک الأحادیث الکثیرة المجموعة فی الباب (18) من مقدّمات «الوسائل» وباب (9) من «جامع الأحادیث» وهی مع کثرتها البالغة أحیاناً إلی الثمانیة أو التسعة مثلاً، أکثرها غیر نقیّ الإسناد؛ ومن الکتب غیر المتواترة.
نعم، فیها خبر معتبر فی «الکافی» عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 232
عمیر، عن هشام بن سالم عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «من سمع شیئاً من الثواب علیٰ شیء فصنعه، کان له وإن لم یکن علیٰ ما بلغه» .
و خبر عن البرقیّ فی «المحاسن» عن علیّ بن الحکم، عن هشام بن سالم عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «من بلغه عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم شیء من الثواب، ففعل ذلک طلب قول النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان له ذلک الثواب وإن کان النبیّ صلی الله علیه و آله وسلملم یقله».
والمناقشة فی حجّیة الخبر الواحد هنا؛ لکونه مربوطاً بالاُصول الاعتقادیّة، غیر جیّدة جدّاً. وأسوأ حالاً توهّم تواتر أخبار المسألة إجمالاً، أو معنویّاً، والأمر سهل.
وقبل الخوض فیما هو مفادها عندنا، نشیر أوّلاً إلیٰ نکتة: وهی أنّها أجنبیّة عمّا هو المطلوب وهو کشف الأمر فی موارد الاحتیاط؛ لاختصاص موردها بمواقع بلوغ الثواب علیٰ عمل، فاُتی به رجاء ذلک الثواب، وفیما نحن فیه لیس البحث حول الاحتیاط فی موارد بلوغ الثواب، بل المبحوث عنه أمر آخر أجنبیّ عنه؛ ولو کان یکشف فرضاً وجود الأمر فی موارد الرجاء والاحتیاط البالغ علیه الثواب.
کما لا یمکن کشف صحّة العبادة الرجائیّة بهذه الأخبار؛ لأنّ موردها فرض بلوغ الثواب، وما نحن فیه غیر مربوط بذلک، وسیظهر إن شاء الله مفاد هذه الأخبار
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 233
من ذی قبل.
إذا عرفت هذه فاعلم: أنّ إطالة الکلام حول هذه الأخبار هنا، غیر جیّدة، وإیجاد الاحتمالات الکثیرة المختلفة إلی حدّ یقال: إنّ هذه الأخبار بصدد حجّیة الضعاف من الأخبار فی المسنونات، وإنّه لا حاجة إلی الإسناد فیها.
أو بصدد إلغاء قیود معتبرة فی حجّیة الخبر الواحد، سواء فیه المسنونات والمکروهات البالغ الثواب علیٰ ترکها؛ لعدم خصوصیّة لها فی جانب المندوبات والأفعال.
أو هی تعمّ موارد الأخبار المتضمّنة لوجوب شیء، ولزوم فعل مجعول علیه الثواب، فتکون دلیلاً علیٰ حجّیة سندها، فیکون لازمها وجوب ذلک الشیء حسب الإطلاق المشاهد فیها.
أو هی بصدد إحداث الأمر متعلّقاً بالفعل، أو النهی متعلّقاً بالترک واقعاً، فیکون الثواب المجعول بالغاً إلیه فی موارد الکذب، وغیر بالغ ذلک الثواب فی موارد وصول الخبر بالسند المعتبر؛ لأنّها بصدد الأخبار الضعیفة ذاتاً غیر ذات السند رأساً، أو ذات سند ضعیف، فلا تعمّ المندوبات الثابتة بالحجج الشرعیّة، ولا یبلغ إلیهم الثواب المجعول فیها؛ لاختصاصها بغیرها، کما هو صریح کلامهم.
أو غیر ذلک، فکلّه الغفلة عن حقیقة الحال والمقال، وتبعید للمسافة، وانصراف عن هذه المآثیر.
والذی یظهر لی یتبیّن بعد التوجّه والالتفات إلیٰ أمرین:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 234
أحدهما: مسألة عقلیّة؛ وهی أنّ مقتضیٰ طائفة من البراهین وجملة من الأخبار، أنّ الثواب یتبع النیّات، حتّیٰ أنّ الخلود فی الجنّة والنار تابعها، وهذه الأخبار من جملة الأخبار الشاهدة علیٰ أنّ النیّة والقصد والرجاء والآمال، دخیلة فی وصول الثواب إلیه، وأنّ الإنسان یثاب علی النیّات؛ ولو کان أقلّ من الثواب البالغ إلیه من النیّة المقرونة بالعمل الصالح.
فهذه الأخبار حکایة وإخبار عن تلک القضیّة، فلو أتیٰ بفعل برجاء ثواب کذائیّ، وکان ذلک فی نیّته وقصده عند الإتیان بذلک العمل، فیصل إلیه ذلک وإن لم یقل به الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم لأنّ المناط لیس علیٰ قوله. ولا یلزم منه الجزاف؛ لأنّ تلک النیّة الصالحة تستتبع ذلک الثواب المأمول حسب اطلاع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
ثانیهما: أنّ فی إمضاء الشرع الطرق العقلائیّة ـ من الظواهر إلیٰ خبر الواحد، وغیر ذلک ممّا یختلف إصابة وخطأً موجباً لمناقشة جمع: بأنّ فی موارد التخلّف والخطأ، تضییعاً لحقّ العاملین السالکین تلک السبل والمسالک، ولو کان الشرع أوجب الاحتیاط فی الجملة مثلاً، لما وقعت الاُمّة فی تفویت المصالح وغیر ذلک.
وعند الالتفات إلیٰ هذه القضیّة مع ما سلف، نرجع إلی الأخبار الواردة فی المسألة، فنجد أن فیها:
أوّلاً: کلمة «بلغه» الظاهرة فی أنّ البلوغ، لابدّ وأن یکون علیٰ وجه متعارف، وإلاّ فمجرّد سماع الحدیث لو کان بلوغاً، للزم أن تشمل هذه الأخبار صورة العلم بالکذب؛ لأنّ فی الخبرین المذکورین، لیس إلاّ الإتیان بالفعل بعد البلوغ، ویحصل له الرجاء إذا کان یشمل الخبران صورةَ العلم بالکذب، کما فیما یقول به العامّة من التصویب فی الموضوع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 235
وثانیاً: المقصود من قوله علیه السلام فی الخبر الثانی: «وإن کان النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لم یقله» أی وإن کان النبیّ لم یقل بالثواب جزاءً لذلک الفعل، لا أنّه وإن کان النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لم یقل أصل الفعل والصنع والعمل، ولذلک تریٰ فی الخبر الأوّل «وإن لم یکن علیٰ ما بلغه» أی لم یکن ما أتیٰ به علیٰ ما بلغه من الثواب، ولکن کان الفعل ممّا قاله؛ وأتیٰ به وهو واقع.
ویؤیّد ذلک روایة محمّد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: «من بلغه ثواب من الله علیٰ عمل، فعمل ذلک العمل التماس ذلک الثواب، اُوتیه وإن لم یکن الحدیث کما بلغه» أی متضمّناً لذلک الثواب، ولکنّه حدیث صادر صحیح.
فبالجملة: بعد الخوض فی هذه الطائفة من الأخبار یظهر: أنّ النظر فیها إلیٰ أنّ وصول الثواب، لیس تابعاً لقوله صلی الله علیه و آله وسلم وأمّا العمل الذی یأتی به وقد بلغه، فلابدّ وأن یکون بالغاً إلیه بنحو متعارف من البلوغ، ویکون المفروض فی هذه الأخبار؛ أنّ ذلک الفعل قد بلغ مطابقاً للواقع، دون ثوابه، فإنّه بلغ علیٰ خلاف الواقع.
وأمّا إذا لم یکن الفعل مطابقاً للواقع، فهو خارج ظاهراً عن نطاق هذه الأخبار، کما أنّ من أتیٰ فی الشبهات البدویّة غیر البالغ إلیه شیء عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولکنّه أتیٰ برجاء المطلوبیّة یثاب، ولکنّه أیضاً خارج عن هذه الأخبار.
فما قیل: «بأنّه تثبت بها حجّیة الخبر، فیجوز الإفتاء علیٰ طبقه» أو «یثبت بها الأمر الخاصّ» فهو بعید عنها، أجنبیّ جدّاً منها.
ولا حاجة إلیٰ إطالة البحث حولها بعد ما عرفت: أنّها أجنبیّة عن المسألة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 236
الاُصولیّة؛ وهی صحّة العبادة فی موارد احتمال الأمر، فإنّ العبادة ـ حسب التحقیق عندنا صحیحة عند الاحتمال وإن لم یکن أمر واقعاً، ولکن ذلک لأجل الجهات المحرّرة الاُخر، دون هذه الأخبار الواردة فی جهة خاصّة، فلا تخلط.
ومن هنا یظهر: أنّ فی موارد البلوغ الصحیحة غیر المجعول علیها الثواب، یثاب المکلّف لأجل ما ورد من الثواب علی النیّات، أو قامت البراهین العقلیّة، وأمّا هذه الأخبار فهی مخصوصة بموارد جعل الثواب علی العمل. ومجرّد قصد الثواب وإن لم یصل إلیه معنی مجعول، لا یکفی شمول هذه الأخبار له.
وممّا تبیّن فی هذه الخلاصة من البحث، یظهر مواضع کثیرة من الضعف والخلط فی کلمات القوم صدراً وذیلاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 237