المقصد التاسع فی البراءة

المسألة الثالثة : فی تعدّد الوقائع المقتضی لتعدّد التکلیف

المسألة الثالثة : فی تعدّد الوقائع المقتضی لتعدّد التکلیف

‏ ‏

‏إذا تعدّدت الوقائع، واقتضیٰ ذلک تعدّد التکلیف، کما فیما إذا علم إجمالاً بأمر‏‎ ‎‏والده بالنسبة إلیٰ صوم جمعات شهر رجب، أو نهیه عنه، أو اُمر بشرب أحد‏‎ ‎‏الإناءین، ونهی عن شرب الآخر، ولا یدری المأمور به المنهیّ عنه، أو تردّد فی أنّه‏‎ ‎‏اُمر بالسفر غداً، ونهی عنه بعد غد، أو یکون بالعکس، فإنّ فی جمیع هذه الصور‏‎ ‎‏یمکن الموافقة الاحتمالیّة، ویمکن المخالفة القطعیّة، والموافقة القطعیّة، والمخالفة‏‎ ‎‏الاحتمالیّة.‏

‏فالبحث هنا حول صور إمکان الجمع بین القطعیّتین، المنتهی إلی البحث عن‏‎ ‎‏أنّه هل یکون التخییر بدویّاً، أو استمراریّاً؟‏

‏وأمّا فیما إذا کان الحکم واحداً غیر انحلالیّ ـ ولو کان بنحو العامّ المجموعیّ،‏‎ ‎‏کصیام جمعات رجب فإنّه مندرج فی المسألة الاُولیٰ، والبحث عن الامتیاز هنا غیر‏‎ ‎‏مخصوص بشیء.‏

‏والکلام هنا بعد الفراغ من تنجیز العلم الإجمالیّ فی التدریجیّات، کما هو‏‎ ‎‏کذلک فی الدفعیّات.‏

‏فهل فی جمیع الصور هو بالخیار دائماً، کما هو مختار الوالد المحقّق‏‎ ‎‏ـ مدّظلّه‏‎[1]‎‏ والعلاّمتین: الأراکیّ‏‎[2]‎‏ والنائینیّ ‏‏رحمهماالله‏‎[3]‎‏؟‏

‏أم یکون التخییر بدویّاً، فلا تجوز المخالفة القطعیّة وإن کانت تلازم الموافقة‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 295
‏القطعیّة، کما علیه بعض المعاصرین‏‎[4]‎‏؟‏

‏وغایة ما هو الوجه لکون التخییر بدویّاً؛ أنّ العلم الإجمالیّ کما یقتضی عقلاً‏‎ ‎‏ممنوعیّة المخالفة القطعیّة عند الإمکان، یقتضی الموافقة الاحتمالیّة، وإذا علم‏‎ ‎‏إجمالاً بحرمة شرب هذا الإناء ووجوب ذاک، یعلم إجمالاً بحرمة شرب هذا الإناء،‏‎ ‎‏أو وجوب ذاک الإناء، وهذا العلم الإجمالیّ یقتضی الموافقة الاحتمالیّة الدائمیّة،‏‎ ‎‏ویمنع عن التخییر الاستمراریّ المستلزم للمخالفة القطعیّة.‏

وبالجملة:‏ العلم الإجمالیّ بالنسبة إلیٰ أحد الأیّام أو أحد الإناءین، لا یؤثّر‏‎ ‎‏فی شیء، ولکن هناک علم إجمالیّ آخر بحرمة شرب هذا الإناء، ووجوب شرب‏‎ ‎‏الإناء الآخر، أو حرمة صوم هذا الیوم، أو وجوب صوم الجمعة الآتیة، وهذا وإن لم‏‎ ‎‏یؤثّر بالنسبه إلی الموافقة القطعیّة، ولکنّه یؤثّر بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة الممکن‏‎ ‎‏الفرار منها بالاختیار البدویّ، لا الدائمیّ، فلا یجوز خلط الإناءین وشربهما؛ ولو‏‎ ‎‏کانت فیه الموافقة القطعیّة، ولا شرب أحدهما أوّلاً، ثمّ الآخر. هذا فی الدفعیّات‏‎ ‎‏والتدریجیّات العرضیّة والطولیّة.‏

أقول:‏ فیه نظر واضح؛ ضرورة أنّ من الأقوال فی العلم الإجمالیّ: أنّه بالنسبة‏‎ ‎‏إلی المخالفة القطعیّة تامّ الاقتضاء وعلّة تامّة، دون الموافقة القطعیّة‏‎[5]‎‏، فعندئذٍ یصحّ‏‎ ‎‏أن یقال: بأنّ العلم الإجمالیّ الثانی، یؤثّر بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.‏

‏وأمّا علیٰ ما هو المعروف عند أبناء التحقیق؛ من عدم الفرق بین آثاره‏‎[6]‎‏،‏‎ ‎‏فالعلم الإجمالیّ الثانی علّة تامّة بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، وهی أیضاً ممکنة‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 296
‏بالضرورة فیلزم، والنتیجة هی التخییر الاستمراریّ، ولأجل هذه الجهة ذهب المعظم‏‎ ‎‏إلی التخییر وعدم الترجیح‏‎[7]‎‏.‏

‏نعم، قد ذکرنا فی موضع من هذا الکتاب: أنّ قضیّة بعض الموازین العقلیّة‏‎ ‎‏الخارجة عن نطاق طلاّب العلوم الاعتباریّة؛ أن الاشتغال الیقینیّ لا یقتضی إلاّ‏‎ ‎‏ممنوعیّة المخالفة القطعیّة، وأمّا الموافقة العلمیّة فلا أثر لها‏‎[8]‎‏، وما هو موجب للآثار‏‎ ‎‏السیّئة هی المخالفة القطعیّة للمولیٰ، فلو شکّ مثلاً فی أنّه أتیٰ بما هو الواجب علیه،‏‎ ‎‏واحتمل إتیانه، فلا یبعد جریان البراءة الشرعیّة، علیٰ تأمّل فیه جدّاً، وعلیٰ هذا لا‏‎ ‎‏تجوز المخالفة القطعیّة؛ لأنّها تستتبع الآثار السیّئة فی تبعات الأعمال، بخلاف‏‎ ‎‏الموافقة القطعیّة، فإنّه لا أثر لها فی حدّ ذاتها، وعلیٰ هذا لابدّ من اختیار التخییر‏‎ ‎‏البدویّ، دون الاستمراریّ.‏

بقی شیء:‏ ربّما یمکن دعویٰ: أنّه لا یکون التخییر استمراریّاً ولو کان العلم‏‎ ‎‏الإجمالیّ مقتضیاً بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، وعلّةً بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة؛‏‎ ‎‏لأنّ المراد من «المقتضی» لیس إلاّ إمکان الترخیص الشرعیّ، وهو هنا مفقود، فما‏‎ ‎‏فی کلام العلاّمة الأراکیّ‏‎[9]‎‏ غیر واقع فی محلّه.‏

قلت:‏ نعم، ولکن یمکن دعویٰ أنّ الفرق بین الاقتضاء والعلّیة، کما یظهر فی‏‎ ‎‏ذاک المورد، یظهر هنا أیضاً، ویکون العلم الإجمالیّ مؤثّراً بالقیاس إلی المخالفة،‏‎ ‎‏دون الموافقة، فلا تخلط.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 297

  • )) أنوار الهدایة 2: 181، تهذیب الاُصول 2: 244.
  • )) نهایة الأفکار 3: 296، مقالات الاُصول 2: 83 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 453 ـ 455.
  • )) مصباح الاُصول 2 : 340.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 77.
  • )) فرائد الاُصول 2: 409، کفایة الاُصول: 407 ، مقالات الاُصول 2: 83 ، نهایة الأفکار 3: 305 ـ 311، منتهی الاُصول 2: 246 ـ 248.
  • )) لاحظ فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 450 ـ 451 ، تهذیب الاُصول 2 : 243 ـ 244 .
  • )) لاحظ ما تقدّم فی الصفحة 137 ـ 138 .
  • )) نهایة الأفکار 3: 295 ـ 396، مقالات الاُصول 2: 83 .