المسألة الثالثة : فی تعدّد الوقائع المقتضی لتعدّد التکلیف
إذا تعدّدت الوقائع، واقتضیٰ ذلک تعدّد التکلیف، کما فیما إذا علم إجمالاً بأمر والده بالنسبة إلیٰ صوم جمعات شهر رجب، أو نهیه عنه، أو اُمر بشرب أحد الإناءین، ونهی عن شرب الآخر، ولا یدری المأمور به المنهیّ عنه، أو تردّد فی أنّه اُمر بالسفر غداً، ونهی عنه بعد غد، أو یکون بالعکس، فإنّ فی جمیع هذه الصور یمکن الموافقة الاحتمالیّة، ویمکن المخالفة القطعیّة، والموافقة القطعیّة، والمخالفة الاحتمالیّة.
فالبحث هنا حول صور إمکان الجمع بین القطعیّتین، المنتهی إلی البحث عن أنّه هل یکون التخییر بدویّاً، أو استمراریّاً؟
وأمّا فیما إذا کان الحکم واحداً غیر انحلالیّ ـ ولو کان بنحو العامّ المجموعیّ، کصیام جمعات رجب فإنّه مندرج فی المسألة الاُولیٰ، والبحث عن الامتیاز هنا غیر مخصوص بشیء.
والکلام هنا بعد الفراغ من تنجیز العلم الإجمالیّ فی التدریجیّات، کما هو کذلک فی الدفعیّات.
فهل فی جمیع الصور هو بالخیار دائماً، کما هو مختار الوالد المحقّق ـ مدّظلّه والعلاّمتین: الأراکیّ والنائینیّ رحمهماالله؟
أم یکون التخییر بدویّاً، فلا تجوز المخالفة القطعیّة وإن کانت تلازم الموافقة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 295
القطعیّة، کما علیه بعض المعاصرین؟
وغایة ما هو الوجه لکون التخییر بدویّاً؛ أنّ العلم الإجمالیّ کما یقتضی عقلاً ممنوعیّة المخالفة القطعیّة عند الإمکان، یقتضی الموافقة الاحتمالیّة، وإذا علم إجمالاً بحرمة شرب هذا الإناء ووجوب ذاک، یعلم إجمالاً بحرمة شرب هذا الإناء، أو وجوب ذاک الإناء، وهذا العلم الإجمالیّ یقتضی الموافقة الاحتمالیّة الدائمیّة، ویمنع عن التخییر الاستمراریّ المستلزم للمخالفة القطعیّة.
وبالجملة: العلم الإجمالیّ بالنسبة إلیٰ أحد الأیّام أو أحد الإناءین، لا یؤثّر فی شیء، ولکن هناک علم إجمالیّ آخر بحرمة شرب هذا الإناء، ووجوب شرب الإناء الآخر، أو حرمة صوم هذا الیوم، أو وجوب صوم الجمعة الآتیة، وهذا وإن لم یؤثّر بالنسبه إلی الموافقة القطعیّة، ولکنّه یؤثّر بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة الممکن الفرار منها بالاختیار البدویّ، لا الدائمیّ، فلا یجوز خلط الإناءین وشربهما؛ ولو کانت فیه الموافقة القطعیّة، ولا شرب أحدهما أوّلاً، ثمّ الآخر. هذا فی الدفعیّات والتدریجیّات العرضیّة والطولیّة.
أقول: فیه نظر واضح؛ ضرورة أنّ من الأقوال فی العلم الإجمالیّ: أنّه بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة تامّ الاقتضاء وعلّة تامّة، دون الموافقة القطعیّة، فعندئذٍ یصحّ أن یقال: بأنّ العلم الإجمالیّ الثانی، یؤثّر بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.
وأمّا علیٰ ما هو المعروف عند أبناء التحقیق؛ من عدم الفرق بین آثاره، فالعلم الإجمالیّ الثانی علّة تامّة بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، وهی أیضاً ممکنة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 296
بالضرورة فیلزم، والنتیجة هی التخییر الاستمراریّ، ولأجل هذه الجهة ذهب المعظم إلی التخییر وعدم الترجیح.
نعم، قد ذکرنا فی موضع من هذا الکتاب: أنّ قضیّة بعض الموازین العقلیّة الخارجة عن نطاق طلاّب العلوم الاعتباریّة؛ أن الاشتغال الیقینیّ لا یقتضی إلاّ ممنوعیّة المخالفة القطعیّة، وأمّا الموافقة العلمیّة فلا أثر لها، وما هو موجب للآثار السیّئة هی المخالفة القطعیّة للمولیٰ، فلو شکّ مثلاً فی أنّه أتیٰ بما هو الواجب علیه، واحتمل إتیانه، فلا یبعد جریان البراءة الشرعیّة، علیٰ تأمّل فیه جدّاً، وعلیٰ هذا لا تجوز المخالفة القطعیّة؛ لأنّها تستتبع الآثار السیّئة فی تبعات الأعمال، بخلاف الموافقة القطعیّة، فإنّه لا أثر لها فی حدّ ذاتها، وعلیٰ هذا لابدّ من اختیار التخییر البدویّ، دون الاستمراریّ.
بقی شیء: ربّما یمکن دعویٰ: أنّه لا یکون التخییر استمراریّاً ولو کان العلم الإجمالیّ مقتضیاً بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، وعلّةً بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة؛ لأنّ المراد من «المقتضی» لیس إلاّ إمکان الترخیص الشرعیّ، وهو هنا مفقود، فما فی کلام العلاّمة الأراکیّ غیر واقع فی محلّه.
قلت: نعم، ولکن یمکن دعویٰ أنّ الفرق بین الاقتضاء والعلّیة، کما یظهر فی ذاک المورد، یظهر هنا أیضاً، ویکون العلم الإجمالیّ مؤثّراً بالقیاس إلی المخالفة، دون الموافقة، فلا تخلط.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 297