امتیازات بین الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة فی العلم الإجمالیّ
وقبل الخوض فی أصل البحث وأساس المسألة، لابدّ وأن نشیر إلی امتیازات بین الشبهات الحکمیّة فی موارد العلم الإجمالیّ، والشبهات الموضوعیّة.
الأوّل : أنّ مقتضی التقریبین السابقین، تنجیز العلم الإجمالیّ بإیجاب الموافقة، وتحریم المخالفة عقلاً، وأنّ حدیث قبح العقاب جزافاً، لا یجری حول العلم الإجمالیّ، وأنّ معذّریة الجهالة، لیست هی الجهالة المقرونة بالعلم. وقد عرفت: أنّ مسألة قبح العقاب بلا بیان، من مصادیق قبح العقاب جزافاً؛ وبلا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 349
استحقاق وجهة واقتضاء.
وهنا بیان ثالث فی الشبهات الموضوعیّة، وقد مرّ فی بحوث القطع؛ وأنّه بمقتضیٰ قیاس الشکل الأوّل تتمّ الحجّة علی العبد، فلابدّ من جوابها، وهو لا یمکن إلاّ بالاحتیاط.
وإمکان إجراء قیاس الشکل الأوّل فی الشبهات الحکمیّة فی صورة کون المشتبه متعلّق المتعلّق، غیر مسدود، إلاّ أنّه یحتاج إلی المؤونة الزائدة، بل وفی نفس المتعلّق، بخلاف الشبهات الموضوعیّة، فإنّ کلّ إناء من الإناءین قابل للإشارة إلیٰ «أنّه إمّا خمر، أو ذاک، والخمر حرام، فهذا أو ذاک حرام» والتفصیل فی مبحث القطع.
وقد ناقشنا فی تمامیّة هذا الشکل فی محیط التشریع؛ للزوم کون المائع حراماً بعلّیة الخمر، وهو خلف؛ فإنّ مقتضیٰ ما فی الأدلّة أنّ الخمر حرام، أو أنّ العالم واجب الإکرام، وأمّا قولک: «زید عالم، والعالم واجب الإکرام، فزید واجب الإکرام» فهو غیر صحیح فی الاعتبار؛ لأنّ زیداً بما هو زید، لیس واجب الإکرام، وما هو واجب الإکرام ومحرّم الشرب، لیس إلاّ طبیعة العالم والخمر وشربها، وأمّا الاُمور الاُخر فهی خارجة، فلا یتمّ الشکل الأوّل فی هذا المحیط.
نعم، لا منع من منع ما فی الخارج؛ للملازمة العقلیّة، فیکون ممنوعاً عقلاً، وإلاّ فلو تحقّق الخمر فارغاً عن جمیع المقولات حتّی الوجود، تکون حراماً. فالواجب هو أن یجعل إکرام العالم خارجیّاً، وأن یصیر إکرام العالم خارجیّاً؛ نظراً إلیٰ أنّه یجب علیه إکرام العالم.
فبالجملة: تنجیز العلم الإجمالیّ بالحکم أو الحجّة قطعیّ، واستتباعه للموافقة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 350
القطعیّة والامتناع عن المخالفة القطعیّة، ضروریّ بحکم العقل علی التقریبین، أو التقاریب الثلاثة.
الثانی : الإشکالات العقلیّة فی ترخیص مجموع الأطراف، تجری فیما نحن فیه بحذافیرها، وتنحلّ بأطرافها بلا زیادة ونقیصة، کإشکال الإذن فی المعصیة، أو المناقضة، أو عدم وجود «الشکّ» الموضوع لأدلّة الترخیص؛ توهّماً أنّه علم إجمالیّ، لا شکّ، ویمکن حلّها من ناحیة اُخریٰ فی خصوص الشبهات الموضوعیّة، کما سیمرّ علیک.
الثالث : ما مرّ من الشبهات الثبوتیّة حول الشبهة الحکمیّة، یختصّ بها، ولا یجری فی الشبهات الموضوعیّة؛ ضرورة أنّ لا یلزم من إجراء الاُصول فی الأطراف، اختصاص الحکم بالعالم، بل یلزم کون الموضوع للواجب والحرام، مقیّداً بالعلم التفصیلیّ، وهذا ممّا لا بأس به بالضرورة، ولا یلزم الدور طبعاً، ولا لغویّة الحکم؛ لما یستکشف من أدلّة الترخیص ـ علیٰ فرض جریانها فی المجموع أنّ موضوع الحکم غیر موجود فی البین؛ فإنّ المجعول علیٰ نعت القضایا الکلّیة القابلة للتقیید بالأدلّة الخاصّة، موضوع مثلاً.
وبالجملة: ربّما ینتهی النظر إلیٰ أن یکون المحرّم بالأدلّة الأوّلیة؛ هی الخمر المعلومة تفصیلاً؛ لجریان الأدلّة فی المجموع، فإنّ مقتضی الجمع بینها وبین الأدلّة الأوّلیة، التصرّف فی موضوعها علی الوجه المذکور، فلا یلزم الإشکال باختصاص الحکم بالعالم.
مع أنّه لو فرضنا التصرّف المزبور، لا تلزم الشبهات الأوّلیة، کالإذن فی المعصیة، والمناقضة، وغیر ذلک، مع أنّها مندفعة رأساً بما لا مزید علیه.
ولأجل ما اُشیر إلیه ینبغی لنا البحث عن الشبهات الموضوعیّة، کما مرّ فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 351
أوّل المسألة الثانیة الإیماء إلیه.
الرابع : قضیّة ما تحرّر عندنا تنجیز العلم الإجمالیّ؛ واستتباعه العقاب، فإن لوحظ تأثیره بالقیاس إلی العقاب، فهو عندنا یعدّ مقتضیاً؛ لإمکان الترخیص فی مجموع الأطراف.
وإن لوحظ بالقیاس إلیٰ فعلیّة الحکم ولا فعلیّته، فهو علّة تامّة لإثباتها لما لایلزم من التصرّف فیها قصور فی فعلیّة الحکم. هذا فی الشبهات الحکمیّة، کما مرّ.
وأمّا فی الشبهات الموضوعیّة، فیمکن الالتزام بکونه علّة تامّة بالقیاس إلی العقاب، ولکن بعد ملاحظة أدلّة الاُصول والأمارات، یلزم أحیاناً انقلاب الموضوع، والالتزامُ بالعلّیة التامّة فی موضوعه، لا ینافی الالتزام بانقلاب موضوعه بالترخیص فی المجموع، کما لا یخفیٰ. وعلیٰ کلّ تقدیر الأمر سهل، والبحث واضح.
وأمّا توهّم: أنّ التصرّف بأدلّة الأمارات والاُصول فی موضوع الأحکام الواقعیّة، خروج عن الجهة المبحوث عنها؛ لأنّ المفروض أنّ ما هو الحرام هی الخمر؛ سواء کانت معلومة، أو مشتبهة، وأنّ الواجب هو إکرام العالم؛ سواء کان معلوماً تفصیلاً، أو إجمالاً، أو مشتبهاً، فهو توهّم فاسد؛ لأنّ البحث هنا حول مرحلة التصدیق، وحول النظر إلیٰ مقایسة الأدلّة الواقعیّة والظاهریّة حسب ما اشتهر اصطلاحاً، وإلاّ فقد عرفت وجه إنکار الأحکام الظاهریّة کلّها.
فما هو المبحوث عنه هنا: هو أنّه مع قطع النظر عن أدلّة الأمارات والاُصول،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 352
تکون قضیّة الإطلاقات إطلاق الموضوع بالضرورة، وأمّا بالنظر إلی الأدلّة المذکورة، فهل یلزم تصرف واقعیّ فی الأحکام الواقعیّة، أم مقتضی الأدلّة المذکورة شیء آخر؛ وهو التصرّف الظاهریّ، أم لا یلزم تصرّف رأساً، أو یکون تفصیل بین أدلّة الأمارات والاُصول، أو بین الاُصول المحرزة وغیرها؟، وهکذا؟ فلا یختلط الأمر علیک وعلی القارئین.
إذا تبیّنت هذه الجهات، فالبحث یتمّ فی طیّ مقامات:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 353