المقام الأوّل : فی الترخیص بالأمارات والطرق، ونسبة أدلّتها إلی الأدلّة الواقعیّة النفسیّة
لو علم إجمالاً بخمریّة أحد الإناءین، وقامت البیّنة الاُولیٰ علیٰ عدم خمریّة أحدهما المعیّن، والبیّنة الثانیة علیٰ عدم خمریّة الآخر، أو قام کلّ واحد منهما علیٰ مائیّة کلّ واحد منهما، فهل لا یکون هناک إطلاق یقتضی حجّیة البیّنة رأساً، فلا تقع المعارضة بینهما بحسب الدلالة الالتزامیّة، والقدر المتیقّن غیر هذه الصورة؟
أو تقع المعارضة بینهما؛ لأنّ لازم البیّنة حجّة؟
أم لا تقع المعارضة؛ لأنّ مقتضیٰ إطلاق دلیل حجیّتها هنا، مثل الشبهة البدویّة، فکما أنّ فی الشبهة البدویة یؤخذ بالبیّنة، ویکون مقتضی الجمع بین الحکم الواقعیّ والظاهریّ علیٰ مسلک القوم، التصرّفَ فی حرمة الخمر؛ لما لا یعقل فعلیّتها المطلقة مع جواز الأخذ بالبیّنة، فالشرع قد انصرف عن واقعه فی صورة الخطأ؛ تسهیلاً علی الاُمّة، کذلک الأمر هنا، فیؤخذ بإطلاق حجّیة البیّنة، ولا تکون البیّنة الخاطئة فی البین إلاّ بحسب ذات الخمر، وأمّا بحسب الحکم فلا أثر لتلک الخمر التی قامت البیّنة علیٰ أنّها لیست خمراً، فإنّها خمر، إلاّ أنّه لا أثر لها، کما فی الشبهة البدویّة حذواً بحذو؛ ومثلاً بمثل، بلا زیادة ونقصان، وذلک أیضاً تسهیلاً؟
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 353
هذا علی مسلک القوم؛ وهو القول بالخطاب الشخصیّ، وانحلال الخطابات القانونیّة إلی الشخصیّة.
وأمّا علیٰ مسلکنا، فلا منع من کون الحکم فعلیّاً بالقیاس إلی الخمر الواقعیّة، ولکنّ الشرع رخّص قانوناً فی تبعیّة البیّنة، ولازم ذلک تبعیّة البیّنة فی الشبهة البدویّة إذا قامت علیٰ خمریّة شیء، أو علیٰ عدم خمریّة شیء، فإنّه إذا کان الواقع فی الصورة الاُولیٰ ماءً، فهو باقٍ علیٰ إباحته، وفی الثانیة باقیة علیٰ حرمتها الواقعیّة القانونیّه الفعلیّة. وهکذا تبعیّة البیّنة فی الشبهة المقرونة بالعلم.
فما هو الخمر الواقعیّ فی البین حرام فعلیّ، ولکنّ الشرع رخّص فی تبعیّة البیّنة، لافی الخمر بعنوانها، وترخیصه فی تبعیّة البیّنة، ربّما ینطبق فی مورد مع الخمر المحرّمة، وهذا لا یستلزم تصرّفاً فی الحکم، ولا قصوراً فی ترخیص التبعیّة قانوناً، کما عرفت فی المسألة الاُولیٰ.
ولأجل ذلک ذهب السیدّ الفقیه الاُستاذ البروجردیّ فی الشبهة البدویّة القائمة علیٰ طهارة الثوب بیّنةٌ شرعیّة، إلیٰ صحّة الصلاة المأتیّ بها فی الثوب المذکور؛ لأنّ الشرع بإمضائه الطریق انصرف عن واقعه؛ لما لا یعقل الالتزام بالواقع جدّاً وفعلیّاً، والترخیص علیٰ خلافه، ومضیٰ ذلک فی بحوث الإجزاء بتفصیل. ولکنّ الحقّ عدم انصرافه عن الواقع، مع صحّة الصلاة المأتیّ بها حسب مسلکنا.
وبالجملة تبیّن: أنّه علیٰ هذا لا معارضة بین البیّنتین إلاّ بحسب الصورة، وما هو منشأ الشبهة والإشکال، لیس هنا أزید ممّا مضیٰ فی المسألة الاُولیٰ؛ ضرورة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 354
أنّ العلم بکذب إحداهما، لا یقتضی ممنوعیّة التبعیّة إلاّ فی صورة کون الخمر حراماً؛ بحیث یستتبع العقوبة، وأمّا إذا تصرّفنا فی الحرمة أو فی العقوبة، فلا اقتضاء له؛ ضرورة أنّ مرتبة الحکم الظاهریّ محفوظة، کما تحرّر وتقرّر.
نعم، ربّما یشکل وجود الإطلاق، أو یقال بانصرافه عن هذه المواقف، ولکنّهما غیر صحیحین جدّاً:
أمّا إنکار الإطلاق، فلا وجه له سواء کان المستند بناء العقلاء، أو دلیلاً شرعیّاً، والمفروغیّة القطعیّة، ولاسیّما بعد ما نجد من الشرع فی موارد المعارضة فی أخبار الثقات بالإرجاع إلی المرجّحات فی الخبرین المتعارضین ذاتاً، فإنّه یعلم منه حجّیة الخبر شرعاً وإن لم یکن حجّة عرفاً فی خصوص المتعارضین بالذات.
وأمّا الانصراف، فهو فی محلّه إذا قلنا: بأنّ الخمر الواقعیّ محفوظ حکمها وتبعاتها من العقوبة.
وأمّا إذا قلنا بعدم انحفاظ حکمها فی صورة الخطأ، أو عدم انحفاظ تبعاتها، کما هو المسلک، فلا معارضة حتّیٰ یثبت الانصراف؛ ضرورة أنّ الخمر بلا حکم أو بلا عقوبة، لیست ذات أثر حتّیٰ تقع المعارضة بین البیّنتین فی مفروض المسألة.
إن قلت: إذا لم یکن لها الأثر، فلا معنیٰ لاعتبار حجّیة البیّنة، فیلزم من حجّیة البیّنة عدمها.
قلت: لا شبهة فی أنّ کلّ طرف لا یأبیٰ عن شمول أدلّتها فی ذاتها، ووجه الانصراف التحفّظ علی الواقع فی هذه المرحلة، أو التحفّظ علیٰ تبعاتها، فإذا تصرّفنا فی ذلک فلا وجه للانصراف، ویکفی هذا أثراً لها؛ ضرورة أنّه لو لا إطلاق حجّیة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 355
الأمارة، کان الواقع باقیاً علیٰ حاله من الفعلیّة، والتبعیّة؛ وهی العقوبة.
فالمحصول ممّا مرّ: عدم الفرق بین الشبهة البدویّة، والمقرونة بالعلم الإجمالیّ، کما لا فرق بین کون المعلوم من الأحکام التکلیفیّة، أو الوضعیّة، بل وبین أن یعلم وجداناً إجمالاً التکلیف الواقعیّ، أو یعلم بالحجّة إجمالاً.
إیقاظ
کما یجوز للبیّنة أن تشهد فی صورة علمها بالماء علیٰ أنّه ماء، أو لیس بخمر، کذلک لها أن تشهد بأنّه لیس حراماً؛ لأنّ الخمر حرام، وهو عندهما لیس خمراً، فلیس حراماً، فإذا شهدت بأنّه لیس حراماً، وکان بحسب الواقع خمراً وحراماً، یلزم المناقضة بین دلیل نفوذ البیّنة، ودلیل حرمة الخمر، ولا علاج إلاّ بأحد أمرین: إمّا بعدم التزامه بحرمة الخمر بعد مفروغیّة التزامه بنفوذ البیّنة فرضاً، کما فی الشبهة البدویّة، أو الالتزام بما سلکناه من عدم المناقضة الثبوتیّة رأساً. وهکذا فی موارد الشبهة المقرونة بالعلم، فشهادتهما علی المائیّة، أو عدم الخمریّة، أو الطهارة، أو عدم النجاسة، واحدة من هذه الجهة. وقد عرفت کیفیّة فعلیّة الحکم فی موارد الاضطرار والعجز والإکراه مع العلم التفصیلیّ بالواقعة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 356