الأمر الثانی : فی بیان صور الخروج عن محلّ الابتلاء
إنّ الصور التی تقع مورد البحث کثیرة نشیر إلیها إجمالاً؛ ضرورة أنّه تارة: یکون الطرف مورد العجز العقلیّ من غیر کونه بعیداً زماناً ومکاناً عن المکلّف؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 448
سواء کان من الشبهة الوجوبیّة، أو التحریمیّة.
واُخریٰ: یکون مورد العجز العادیّ لجهة من الجهات، ومنها البعد المکانیّ أو الزمانیّ، کما مرّ فی تنبیه تنجیز العلم فی التدریجیّات، فإنّه لافرق بین البعدین بعد کون محطّ الکلام هو العلم بالتکلیف الفعلیّ غیر الموقّت القابل عقلاً للامتثال، أو الموقّت الموسّع، مع احتمال وصوله إلیٰ متعلّق التکلیف، وإلاّ فلو علم بعدم وصوله إلیه یصیر عاجزاً عقلاً؛ سواء کان عدم الوصول لأجل البعد المکانیّ، أو الزمانیّ.
وثالثة: ما هو مورد القدرتین العادیّة والعقلیّة، إلاّ أنّ التکلیف التحریمیّ أو الإیجابیّ قبیح، لا لأجل العجز کما فی الموردین، بل لأجل الاُمور الاُخر المعتبرة فی حسن التکلیف.
وهی کونه باعثاً وزاجراً بالفعل، أو قابلاً للباعثیّة والزاجریّة قابلیّة عرفیّة، لافرضیّة عقلیّة، وذلک فی موارد وجود الدواعی الشدیدة علی الترک فی موارد التحریم، وعلی الفعل فی موارد الإیجاب؛ بحیث لو لم یکن أمر ولا نهی یحصل ماهو مطلوب المولیٰ، ولا یحصل ماهو مبغوضه، مثل النهی عن أکل القاذورات، والأمر بحفظ النفس من الأخطار، وسدّ الجوع، ورفع العطش، وجلب المقام والرئاسة بالنسبة إلیٰ من فیه الدواعی الطبیعیّة متوفّرة بالغة إلیٰ حدّ لو نهیٰ عنه الشرع لعصیٰ، فإنّه یقبح الإیجاب، بل لایعقل حصول الجدّ وتحقّق الإرادة الجدّیة الزاجرة، ولا الباعثة فی نفس المولیٰ.
فهذه الصور مشترکة مع موارد العجز العقلیّ، وأمسّ إلیها من موارد العجز العادیّ کما لا یخفیٰ. والجامع بین هذه الصور: أنّ الأمر والنهی اللذین یجب امتثالهما، ما کانا جدّیین واقعیّین، لا صوریّین، والجدّ لایحصل فی هذه الموارد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 449
بالنسبة إلی المولی العارف العالم بالوقائع.
ورابعة: ماهو المقدور عقلاً وعادة، ولیس مورد الدواعی النفسانیّة الباعثة أو الزاجرة، ولکنّه غیر واقع فی محطّ الحاجة، ولیس مورد الابتلاء حین تعلّق العلم، ویبعد مسیس الاحتیاج إلیه، مثل ما إذا علم إجمالاً: بأنّ القطرة إمّا وقعت فی الإناء الذی یرید التوضّؤ به، أو فی إبریق المسجد الذی لا یبتلیٰ به مادام موجوداً، أو وقعت فیه، أو علیٰ ثوب صدیقه الذی لاتمسّ الحاجة إلی الصلاة فیه حسب المتعارف.
وهذا الفرض هو فرض الابتلاء واللاابتلاء بحسب اللغة، وإلاّ فسائر الفروض خارجة عن هذا المفهوم أیضاً وإن کان الملاک والمناط أعمّ.
والفرق بین هذه الصورة والصورة السابقة: أنّه فی السابقة تکون الدواعی النفسانیّة علیٰ ترکها؛ بحیث یُعصی الله تعالیٰ ولو أمر به مثلاً، بخلاف هذه الصورة، فإنّه لاداعی له فیها إلی الترک، ولیس مورد التنفّر والانزجار الطبیعیّ، فإنّه لو علم بوقوع القطرة إمّا علیٰ ثوبه، أو علیٰ أرض الدار، أو الزقاق والشارع، لایکون انزجار عن السجدة علیٰ تلک الأرض، ولاتنفّر الطباع منها، بخلاف ما إذا علم: بأنّ مافی أحد الإناءین خمراً، أو سنخ متلوّث وکان بین یدیه.
وخامسة: أن یکون الناس مختلفین بحسب الأحوال والأفراد فی الدواعی الزاجرة والباعثة، وفی فقدها، فربّما یکون بعضهم صاحب الدواعی الباعثة، وبعضهم بلا داعٍ فی موارد التکلیف الإیجابیّ، وبعضهم ذوی الداعی الزاجرة فی مورد التکلیف التحریمیّ، وبعضهم بلا داعٍ.
والمقصود من «الدواعی» هی المحرّکات نحو الفعل علیٰ وجه العلّیة التامّة، وإلی الزجر عنه کذلک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 450
إذا تبیّنت هذه الصور، فالذی هو مورد الکلام فی المقام: هو أنّ ترشّح الإرادة الجدّیة إلی البعث والزجر فی الواجبات والمحرّمات، غیر ممکن بعد علم المولیٰ بتلک الأحوال والأفراد، وبعد الالتفات إلیٰ أنّ الأمر والنهی لیس إلاّ لأجل الباعثیّة والزاجریّة، ولیس لهما شأن إلاّ تحریک العباد إلیٰ جانب الفعل والزجر عنه، فإذا کانت فی أنفسهم المبادئ اللازمة الکافیة موجودة، فلا أمر واقعیّ، ولانهی حقیقیّ، کما لایکون فی موارد العجز العقلیّ والعادیّ، فإنّ جمیع الصور مشترکة فی هذا المناط والملاک الموجب لقبح التکلیف، بل وامتناع صدور الإرادة بعد الالتفات إلیٰ أطراف القضیّة.
وتصیر النتیجة فی موارد العلم الإجمالیّ التی یکون بعض الأطراف داخلاً فی إحدی الصور الخمس دون الطرف الآخر: عدمَ التنجّز؛ لعدم العلم بالتکلیف الفعلیّ علیٰ کلّ تقدیر.
وغیر خفیّ: أنّ لازم هذا الأمر وهو عدم کون الأمر منجّزاً، إشکال آخر یتوجّه إلیٰ کثیر من المحرّمات التشریعیّة، والواجبات الإسلامیّة؛ ضرورة امتناع صدور الإرادة الإلزامیّة فی هذه الموارد التی تتنفّر منها الطباع، ولا تمسّ إلیها الحاجة، وتکون الدواعی الباعثة إلیٰ إیجادها کافیة.
وأیضاً: لا ینبغی الخلط بین هذه المسألة، وما مرّ فی المجلّد الأوّل حول الخطابات الشخصیّة والقانونیّة والمشاکل المترتّبة علی القول بانحلال الخطاب إلی الخطابات؛ ضرورة أنّ فی موارد الصورة الثالثة، لاتنحلّ المشکلة بالخطابات القانونیّة؛ لتنفّر النوع منها، أو لتوفّر الدواعی إلیٰ إیجادها وانحفاظها، کحفظ النفس وأشباهه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 451