الأمر الرابع : فی وجوه الجواب عن الشبهة السابقة
قد تشبّث لحلّ المشکلة التی مرّت، جمع من المحصّلین بوجوه لاتخلو من الضعف:
فمنها ما فی کلام العلاّمة المحشّی والمیرزا النائینیّ رحمهماالله: وهو أنّ مناط الخروج عن الاستهجان هو الإمکان؛ وقابلیّة الأمر والنهی للداعویّة والزاجریّة، دون الفعلیّة، وهذا هو الحاصل فی موارد انصراف الدواعی عن المبغوض، ووجود الدواعی إلی المطلوب.
ویتوجّه إلیٰ هذه المقالة أوّلاً: أنّ الامر التأکیدیّ الواقع بعد الأمر الأوّل قابل لما ذکر، مع أنّه لایکون حجّة بالضرورة.
وثانیاً: أنّ مجرّد الإمکان الذاتیّ والوقوعیّ غیر کافٍ؛ لامتناع حصول جدّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 454
المولی العالم بعدم انتراک الواجب المطلوب، وبعدم تحقّق المحرّم المبغوض، فإنّه یکون الأمر والنهی لغواً، واللغو بعید عن ساحته.
وتوهّم: أنّ فی جانب الأمر یکون الانبعاث القربیّ مستنداً إلیه، وهکذا فی النهی القربیّ، فاسد ومنشاُه تخیّل أنّ القربیّة من تبعات الأمر والنهی، مع أنّک عرفت فی مباحث التعبّدی والتوصّلی: أنّ تقسیم الأمر إلیهما غلط، بل القربیّة والتوصّلیة تجیء من الجهات الخارجة، والأمر یدعو إلیٰ ماهو المقرّب وهکذا، من غیر أن یکون شخص الأمر قربیّاً.
نعم، الانبعاث عن البعث ربّما یعدّ قربیّاً، ولکنّه فی غیر المقام، فالأمر لغو فی مفروض الکلام، وهکذا النهی.
هذا مع أنّه لو کان مجرّد القابلیّة کافیاً، لکان الأمر والنهی سیّان، فتفصیل العلاّمة النائینیّ بینهما فی غیر محلّه.
ومنها: أنّ فی موارد القدرة العادیّة مع وجود الدواعی الزاجرة بالنسبة إلی المنهیّ، والباعثة بالنسبة إلی المأمور به، یمکن الأمر والنهی، بخلاف صورة فقد القدرة، فإنّ التقیید بالقدرة ممکن، والتقیید بالإرادة ممتنع؛ ضرورة أنّ الأمر والنهی لصرف الإرادة فی الواجب، وزجرها عن المحرّم، فکیف یقیّد بها؟! هکذا فی کلام العلاّمة النائینیّ رحمه الله.
وفیه ما لایخفیٰ؛ فإنّه فرق بین التقیید، وبین کون المولیٰ عارفاً بوجود الدواعی المنتهیة إلیٰ وجود الإرادة وعدمها، وما هو المفروض هو الثانی.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 455
هذا مع أنّه خلاف مقالته: وهی کفایة الإمکان الذاتیّ، بل والوقوعیّ؛ لأنّهما حاصلان بالضرورة، فالتقیید لایورث الخروج عن الإمکان، کما لایخفیٰ.
ثمّ إنّ التقیید بالإرادة واقع فی مسألة قصد إقامة عشرة أیّام، وجائز بنحو الاشتراط؛ لأنّه إذا حصلت الإرادة بالنسبة إلیٰ لقاء الصدیق یجب اللقاء ولا یجوز الانصراف. بل بنحو التقیید أیضاً؛ لأنّ الإرادة اختیاریّة، فاغتنم.
ومنها: أنّ الدواعی للأمر والنهی مختلفة، فتارة: یکون داعی الأمر انبعاث المأمور، وهکذا فی ناحیة النهی.
واُخریٰ: یکون تکمیل نفس المکلّفین؛ بتذکّر الله تعالیٰ حین الالتفات إلی الأمر والنهی وغیر ذلک، فعندئذٍ یکون الأمر والنهی فیما ترغب فیه الاُمّة، وتتنفّر عنه الطباع لأجل الأخیر.
وفیه أوّلاً: أنّه یجوز ذلک فی موارد العجز العقلیّ.
وثانیاً: أنّه لایستلزم العقاب والثواب، ولایکون له الإطاعة والعصیان، مع أنّ المقصود من الأمر والنهی ومن حلّ المشکلة؛ أن یکون ارتکاب أکل القاذورة حراماً شرعیّاً، فما فی کلام بعض المعاصرین غیر راجع إلیٰ محصّل.
ومنها: ما أفاده العلاّمة الاُستاذ السیّد البروجردیّ قدس سره فی غیر المقام: «وهو أنّ فی جمیع موارد الأمر والنهی، لایکون ذات الأمر والنهی باعثاً وزاجراً، بل فی جمیع الأحیان، الدواعی والعلم بتبعات الأمر والنهی ـ من الثواب والعقاب ـ توجب الانبعاث والانزجار، فکما أنّ فی الانزجار عن أکل القاذورات الدنیویّة لایکون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 456
النهی زاجراً، کذلک الابتلاء بجهنّم وأکل مافیها ـ الذی هو أسوأ بمراتب منها ـ یوجب الانزجار فی ناحیة الأمر والنهی، وهکذا فی ناحیة الجنّة.
«وَقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِیَ الشَّکُورُ» الذین تکون عباداتهم وأفعالهم وتروکهم أفعالَ الأحرار، وإلاّ فالنوع عبادتهم عبادة الاُجراء والعبید.
فعلیٰ هذا، لیس الأمر والنهی إلاّ موضوعاً للإطاعة والعصیان، ومنشأً لاعتبارهما، والبعث التشریعیّ والزجر التشریعیّ، لیس إلاّ بعثاً مجازیّاً وتخیّلیاً وزجراً توهّمیاً، وما هو الباعث الزاجر هی الاُمور الاُخر الموجودة فی النفس علی اختلافها؛ بحسب اختلاف الناس نقصاً وکمالاً».
وفیه: أنّ مفهومی «الطاعة» و«العصیان» لا یعتبران إلاّ عن موارد التخلّف عن الأمر الجدّی النفسیّ، والنهی الجدّی النفسیّ، ولا یعتبران من الهزلیّات، ولا من الغیریّات، والإرشادیّات.
والکلام هنا حول أنّ حصول الجدّ ممّا لابدّ منه، کما لابدّ وأن یکون مورد جدّ الآمِر والناهی معلوماً، وأنّه لیس جدّیة الأمر والنهی، کی یقال: إنّه مورد الجدّ، بل الجدّ هو فی ناحیة متعلّق الأمر والنهی، وما هو من تبعات الأمر والنهی؛ هو من تبعات عصیان الأمر والنهی وإطاعتهما، فلابدّ من تحقّق العصیان والطاعة، وهما لایحصلان إلاّ فی صورة حصول الإرادة الجدّیة التشریعیّة المتعلّقة بالمادّة والطبیعة والمتعلّق متوجّهین إلی الناس. إلاّ أنّ الاُمّة بعد الالتفات إلیٰ تبعات الأمر والنهی ترغب فی الطاعة، وتنزجر عن العصیان، وربّما تجد أنّه لاتتحقّق الإطاعة إلاّ بالانبعاث عن البعث، کما فی العبادات، وتجد أنّه لایترتّب الثواب والفرار من العقاب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 457
إلاّ بذلک، فیکون الباعث الأوّلی هو ما یترتّب علیهما، والباعث الزاجر الثانویّ هو الأمر والنهی، فلا یتمّ ما أفاده قدس سره ولا ینفع لحلّ المشکلة هنا، فلاحظ واغتنم.
ومنها: ما حکی عن بعض الأجلّة، وقد مرّ فی هذا الکتاب ذکره وفساده: وهو أنّ التکلیف لیس إلاّ معنی وضعیّاً اعتباریّاً فی الذمّة، أو التزاماً وضعیّاً وتعهّداً، فلا خطاب حقیقة، ولا بعث ولا زجر واقعاً، ولا کنایة عن هذا المعنی الوضعیّ.
وأنت خبیر بما فیه فی المحرّمات، ولاسیّما المستحبّات والمکروهات. مع أنّه لامعنیٰ للاعتبار الوضعیّ إلاّ باستتباعه أحد أمرین: إمّا التکلیف بأداء ما فی الذمّة، فیلزم التسلسل، أو حکم العقل، فیلزم إنکار الوجوب والتحریم الشرعیّین الواضح خلافه عند العرف واللغة والوجدان. مع أنّه یلزم جوازه فی موارد العجز وامتناع الامتثال، کما لایخفیٰ.
ومنها: ما أبدعناه، وبه تنحلّ المشکلة، ومقتضاه تنجیز العلم الإجمالیّ فی جمیع الصور الخمس: وهو أنّ مناط تنجّز العقاب لیس العلم بالتکلیف، بل العلم بالمبغوضیّة الإلزامیّة والمطلوبیّة الحتمیّة والمحبوبیّة اللابدّیّة، یقتضی التبعیّة والقیام بالوظیفة وإن لم یکن تکلیف، ولا خطاب، ولا بعث، ولا زجر، کما فی العلم التفصیلیّ بذلک.
فعلیٰ هذا، کما یمکن إعلام المبغوضیّة بالجمل الخبریّة، یمکن ذلک بالجمل الإنشائیّة؛ ضرورة أنّه یستکشف بهما المصالح الإلزامیّة والمفاسد. ولا یلزم أن یکون فی جمیع موارد الأمر والنهی انبعاث، أو إمکان انبعاث، بل لابدّ من وجود
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 458
غرض فی الأمر والنهی: وهو اطلاع الاُمّة الإسلامیّة علیٰ حدود المطلوبات والمحبوبات والمبغوضات للمولیٰ.
فلو کان أحد الأطراف معجوزاً عقلاً، أو عادةً، وکان العلم الإجمالیّ بالمبغوض المذکور منجّزاً، یکفی النهی للإعلام؛ للزوم الاحتیاط بالنسبة إلی الطرف المقدور العقلیّ والعادیّ، وهکذا بالنسبة إلی الأطراف المتوفّرة فیها الدواعی الباعثة والزاجرة، وهکذا فی سائر الصور.
فجمیع الصور بملاک واحد مورد وجوب الاحتیاط، من غیر حاجة إلیٰ حدیث الخطابات القانونیّة لحلّ هذه المشکلة. مع أنّ حلّها بها محلّ إشکال، بل منع، کما سیظهر إن شاء الله تعالی.
وبالجملة: کان وجه عدم تنجیز التکلیف؛ إمّا قبح الخطاب ولغویّة الأمر والنهی، أو استهجان الطلب، والکلّ منتفٍ؛ لما لاخطاب ولا إنشاء، بل المقصود من ذلک البعث والنهی هو توجیه الاُمّة إلیٰ ما اُشیر إلیه فی هذه المواقف الخاصّة ثبوتاً وإثباتاً، وفی غیرها ثبوتاً، وأمّا فی مرحلة الإثبات فکسائر الأوامر العقلائیّة.
ولا ینبغی توهّم: أنّ ذلک مجرّد فرض لا دلیل علیه؛ ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها هی حلّ مشکلة المسألة عقلاً، وإثبات استحقاق العقاب علیٰ أکل القاذورات، وعلیٰ ترک حفظ النفس، وغیر ذلک.
ومن الموجبات المخرجة لإعلام المولی عن اللغویّة: هو نفس ذلک الاستحقاق الذی لایمکن إنکاره، فلو قام إجماع تعبّدی قطعیّ علیٰ محرّمیة هذه الاُمور، أو وجوب شیء، فهو لایزاحم بالمشکلة العقلیّة المذکورة. مع أنّه یلزم الاحتیاط ـ حسب الموازین العقلیّة ـ فی صورة العلم الإجمالیّ.
نعم، قضیّة ما تحرّر منّا قیام السیرة العملیّة علیٰ عدم الاحتیاط فی مجموع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 459
الصور الخمس، وعدم بناء العقلاء علیه فی الاُولیٰ والثانیة فی الشبهات التحریمیّة، دون الإیجابیّة.
نعم، مقتضیٰ جریان الاُصول العملیّة عدم وجوب الاحتیاط مطلقاً، وجواز المخالفة القطعیّة هنا کما مرّ فی أصل المسألة.
وربّما تؤیّدنا صحیحة علیّ بن جعفر علیهماالسلام فی قصّة العلم الإجمالی بوقوع الدم فی الإناء أو خارجه، فإنّ الخارج فیها خارج عن محلّ الحاجة، ولذلک لم یحکم فیها بالاحتیاط، بخلاف موارد القبلة المشتبهة والإناءین المشتبهین، فلا حاجة إلیٰ طرحها، أو حملها علی المحامل الضعیفة، أو الذهاب إلیٰ مذهب الشیخ قدس سره علیٰ ما حرّرناه فی کتاب الطهارة.
وتصیر النتیجة: أنّ البحث حول هذه المسألة أیضاً ـ بعد ما بنینا علیه فی أصل البحث ـ لایکون إلاّ تشحیذاً للأذهان، ولحلّ المشاکل علیٰ مبانی الفضلاء والأعیان.
ومنها: ما أبدعه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه من حدیث الخطابات القانونیّة، ومن خلط الأعلام بینها وبین الخطابات الشخصیّة، ومن قولهم بانحلال الاُولیٰ إلی الثانیة، واشتراط ما فی الثانیة فی الاُولیٰ بعد الانحلال. وقد مرّ تفصیله فی المجلّد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 460
الأوّل وثمراته وإشکالاته بما لا مزید علیه، ولا یوجد إلاّ لدینا.
ومن تلک الثمرات تنجیز موارد الصورة الاُولیٰ والثانیة؛ ضرورة أنّه لایستهجن الخطاب العامّ وضرب القانون الکلّی، بعد کون شرب الخمر مورد ابتلاء عموم الطائفة والاُمّة، ولا تعتبر القدرة الشخصیّة فی ذلک، بل تکفی القدرة النوعیّة.
ولکن مع الأسف، لا تنحلّ به المشکلة فی الصورة الثالثة وإن انحلّت به الرابعة والخامسة؛ ضرورة أنّه فی الثالثة تکون الدواعی النوعیّة علی الانزجار موجودة، فلا یصحّ حینئذٍ ضرب القانون العامّ أیضاً.
نعم، لو کان مثل حدیث حفظ النفس، وارداً فی مسألة حرمة قتل النفس المحترمة الشامل للنفس والغیر، یمکن ضرب ذلک القانون. کما لو کان حدیث حرمة أکل القاذورات، وارداً فی مسألة حرمة الخبائث، یصحّ ضرب القانون الکلّی؛ لأنّ تنفّر الطبع وتوفّر الدواعی بالنسبة إلیٰ صنف أو فرد، لایضرّ به. إلاّ أنّ المسألة بحسب مقام الإثبات مشکلة، کما تشکل فی مثل تحریم نکاح الاُمّهات، فتأمّل.
ولو قلنا بتنجیز العلم لأجل ذلک فی الصورة الثالثة، لا نقول به فی غیرها؛ لقیام السیرة. بل هو ـ مدّظلّه قد صدّق فی خارج مجلس البحث تلک السیرة فلیلاحظ، واغتنم جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 7)صفحه 461