المسألة الثالثة فی الأقلّ والأکثر

بقی شیء : فی حکم ما لا تصل إلیه العقول من الأسباب عند الشکّ

بقی شیء : فی حکم ما لا تصل إلیه العقول من الأسباب عند الشکّ

‏ ‏

‏وهو أنّ فی مثل الأسباب الواصلة إلیها عقول الناس، وغیر المتدخّل فیها‏‎ ‎‏الشرع، یکون الاشتغال متعیّناً؛ لأنّه یمکن للمکلّف العلم بالسقوط بعد العلم‏‎ ‎‏بالثبوت، فیرمیٰ ویحرق حتّیٰ یعلم بحصول قتل سابّ النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ والکتب الضالّة.‏

‏وأمّا فی مثل ما لا یصل إلیه عقول الناس، کالطهارات الثلاث وأمثالها، أو‏‎ ‎‏یکون للشرع التدخّل باعتبار جزء فیها أو شرط لها کالمعاملات، فلا یتمکّن‏‎ ‎‏المکلّف من العلم بالسقوط بعد العلم بالثبوت؛ لاحتمال دخالة شیء فی السبب غیر‏‎ ‎‏الواصل إلیه وغیر المنکشف له، فعند ذلک البراءة العقلیّة والعقلائیّة وإن لم تکن‏‎ ‎‏جاریة؛ لکفایة صحّة العقوبة علیٰ فرض الإصابة، وسببیّةِ المقدار الواصل بعد العلم‏‎ ‎‏بالأمر والمأمور به علی الإطلاق کما عرفت، ولکن البراءة الشرعیّة تجری؛ لعدم‏‎ ‎‏تنجّز الواقع فی صورة الجهالة بالجزء والشرط المرفوعین بالحدیث؛ وأنّ رفع‏‎ ‎‏الجزئیّة والشرطیّة المجهولتین، لا معنیٰ له إلاّ اکتفاء الشرع بسببیّة الأجزاء الاُخر،‏‎ ‎‏فکما أنّ فی الأقلّ والأکثر برفعهما لا معنیٰ له إلاّ الاکتفاء بالباقی؛ لأنّ المرفوع‏‎ ‎‏هناک جزئیّة الشیء للمأمور به وشرطیّة المحتمل للمکلّف به، یکون هنا ما هو‏‎ ‎‏المرفوع جزئیّة الشیء وشرطیّته للسبب، فلا یکون من الأصل المثبت.‏

وإن شئت قلت:‏ إذا کانت عدّة أجزاء سبباً اعتباریاً أو منکشفاً بالأدلّة، وشکّ‏‎ ‎‏فی الجزء الزائد واُضیف إلیٰ ذلک المعلوم قول المعصوم ‏‏علیه السلام‏‏: «إنّ الجزء الفلانیّ غیر‏‎ ‎‏دخیل فی صورة الشکّ وظرف الجهالة» یستنتج منه المطلوب.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 67
وبعبارة اُخریٰ:‏ ما نحن فیه وإن لم یکن مثل الأقلّ والأکثر؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏المأمور به مبیّن، ولابدّ من سبب یتسبّب به إلیه، إلاّ أنّ السببیّة العقلائیّة المعتبرة عن‏‎ ‎‏السبب العقلیّ، والسببیّةَ الشرعیّة المنکشفة بالشرع، تتقوّم بالتعبّد إمضاءً فی الاُولیٰ،‏‎ ‎‏وتأسیساً ـ أی کشفاً ـ فی الثانیة، فإذا احتاجت إلی التعبّد یجوز أن یقال: التعبّد‏‎ ‎‏بالنسبة إلی الأجزاء المعلومة واضح ومعلوم، وبالنسبة إلی الجزء الزائد مشکوک فیه،‏‎ ‎‏فإذا رفع ذلک بالتعبّد تبقیٰ بقیّة الأجزاء المتعبّد بها، ولا تصحّ العقوبة علیٰ ترک‏‎ ‎‏المأمور به الواقعیّ من ناحیة ترک الجزء المرفوع. وعدّ مثل ذلک من الواسطة الخفیّة‏‎ ‎‏ومن الخارج عن الأصل المثبت ـ لفهم العقلاء، وتقبیح العقاب بعد رفع المجهول ـ‏‎ ‎‏غیر بعید.‏

أقول:‏ یتوجّه إلیٰ جمیع هذه التقاریب ـ حتّیٰ التقریب المنتهی إلی التفصیل‏‎ ‎‏بین الأسباب الاعتباریّة والشرعیّة؛ بتوهّم أنّ فی باب الأسباب العقلائیّة لمکان عدم‏‎ ‎‏السببیّة الواقعیّة، وإمکان التعبّد بسببیّة الأجزاء المعلومة دون الشرعیّة؛ لأنّها‏‎ ‎‏منکشفات بالشرع، فلا یتدخلّ فیها الشرع، ولا تنالها ید التشریع، یمکن إجراء‏‎ ‎‏البراءة فی الاُولی ـ : أنّ المفروض هو باب السببیّة والمسبّبیة الواقعیّة، أو الادعائیّة‏‎ ‎‏والاعتباریّة، فلابدّ من العلم بتحقّق السبب الواقعیّ أو الادعائیّ بالمقدار المیسور،‏‎ ‎‏وذلک العلم إمّا یکون علماً وجدانیّاً، أو تعبّدیاً، والکلّ منتفٍ.‏

‏فلا طریق إلیٰ حلّ معضلة المثبتیّة إلاّ ما ذکرناه: وهو أنّ حدیث الرفع استثناء‏‎ ‎‏بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیّة، فلا یکون حکماً ظاهریّاً، بل هو حکم واقعیّ اجتهادیّ،‏‎ ‎‏أو یکون بحکم الاجتهادیّ، ویرفع الجزء؛ بمعنیٰ رفع المسبّب من ناحیة رفع الجزء‏‎ ‎‏فی المسبّب الواقعی، کما فی الأسباب الشرعیّة، أو رفع الجزئیّة بمعنیٰ دخالتها فی‏‎ ‎‏الأثر فی الادعاء والاعتبار، کما فی الأسباب العقلائیّة.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 68