بقی شیء : فی حکم ما لا تصل إلیه العقول من الأسباب عند الشکّ
وهو أنّ فی مثل الأسباب الواصلة إلیها عقول الناس، وغیر المتدخّل فیها الشرع، یکون الاشتغال متعیّناً؛ لأنّه یمکن للمکلّف العلم بالسقوط بعد العلم بالثبوت، فیرمیٰ ویحرق حتّیٰ یعلم بحصول قتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والکتب الضالّة.
وأمّا فی مثل ما لا یصل إلیه عقول الناس، کالطهارات الثلاث وأمثالها، أو یکون للشرع التدخّل باعتبار جزء فیها أو شرط لها کالمعاملات، فلا یتمکّن المکلّف من العلم بالسقوط بعد العلم بالثبوت؛ لاحتمال دخالة شیء فی السبب غیر الواصل إلیه وغیر المنکشف له، فعند ذلک البراءة العقلیّة والعقلائیّة وإن لم تکن جاریة؛ لکفایة صحّة العقوبة علیٰ فرض الإصابة، وسببیّةِ المقدار الواصل بعد العلم بالأمر والمأمور به علی الإطلاق کما عرفت، ولکن البراءة الشرعیّة تجری؛ لعدم تنجّز الواقع فی صورة الجهالة بالجزء والشرط المرفوعین بالحدیث؛ وأنّ رفع الجزئیّة والشرطیّة المجهولتین، لا معنیٰ له إلاّ اکتفاء الشرع بسببیّة الأجزاء الاُخر، فکما أنّ فی الأقلّ والأکثر برفعهما لا معنیٰ له إلاّ الاکتفاء بالباقی؛ لأنّ المرفوع هناک جزئیّة الشیء للمأمور به وشرطیّة المحتمل للمکلّف به، یکون هنا ما هو المرفوع جزئیّة الشیء وشرطیّته للسبب، فلا یکون من الأصل المثبت.
وإن شئت قلت: إذا کانت عدّة أجزاء سبباً اعتباریاً أو منکشفاً بالأدلّة، وشکّ فی الجزء الزائد واُضیف إلیٰ ذلک المعلوم قول المعصوم علیه السلام: «إنّ الجزء الفلانیّ غیر دخیل فی صورة الشکّ وظرف الجهالة» یستنتج منه المطلوب.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 67
وبعبارة اُخریٰ: ما نحن فیه وإن لم یکن مثل الأقلّ والأکثر؛ ضرورة أنّ المأمور به مبیّن، ولابدّ من سبب یتسبّب به إلیه، إلاّ أنّ السببیّة العقلائیّة المعتبرة عن السبب العقلیّ، والسببیّةَ الشرعیّة المنکشفة بالشرع، تتقوّم بالتعبّد إمضاءً فی الاُولیٰ، وتأسیساً ـ أی کشفاً ـ فی الثانیة، فإذا احتاجت إلی التعبّد یجوز أن یقال: التعبّد بالنسبة إلی الأجزاء المعلومة واضح ومعلوم، وبالنسبة إلی الجزء الزائد مشکوک فیه، فإذا رفع ذلک بالتعبّد تبقیٰ بقیّة الأجزاء المتعبّد بها، ولا تصحّ العقوبة علیٰ ترک المأمور به الواقعیّ من ناحیة ترک الجزء المرفوع. وعدّ مثل ذلک من الواسطة الخفیّة ومن الخارج عن الأصل المثبت ـ لفهم العقلاء، وتقبیح العقاب بعد رفع المجهول ـ غیر بعید.
أقول: یتوجّه إلیٰ جمیع هذه التقاریب ـ حتّیٰ التقریب المنتهی إلی التفصیل بین الأسباب الاعتباریّة والشرعیّة؛ بتوهّم أنّ فی باب الأسباب العقلائیّة لمکان عدم السببیّة الواقعیّة، وإمکان التعبّد بسببیّة الأجزاء المعلومة دون الشرعیّة؛ لأنّها منکشفات بالشرع، فلا یتدخلّ فیها الشرع، ولا تنالها ید التشریع، یمکن إجراء البراءة فی الاُولی ـ : أنّ المفروض هو باب السببیّة والمسبّبیة الواقعیّة، أو الادعائیّة والاعتباریّة، فلابدّ من العلم بتحقّق السبب الواقعیّ أو الادعائیّ بالمقدار المیسور، وذلک العلم إمّا یکون علماً وجدانیّاً، أو تعبّدیاً، والکلّ منتفٍ.
فلا طریق إلیٰ حلّ معضلة المثبتیّة إلاّ ما ذکرناه: وهو أنّ حدیث الرفع استثناء بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیّة، فلا یکون حکماً ظاهریّاً، بل هو حکم واقعیّ اجتهادیّ، أو یکون بحکم الاجتهادیّ، ویرفع الجزء؛ بمعنیٰ رفع المسبّب من ناحیة رفع الجزء فی المسبّب الواقعی، کما فی الأسباب الشرعیّة، أو رفع الجزئیّة بمعنیٰ دخالتها فی الأثر فی الادعاء والاعتبار، کما فی الأسباب العقلائیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 68