الجهة الرابعة : حول جعل الحجّیة للقطع ووجوب موافقته
قد تعرّض فی «الدرر» مستقلاًّ لأمر آخر : وهو أنّ القطع هل یقبل أن یتعلّق به أمر المولیٰ، أم لا؟ ونحن نشیر إلیٰ محتملات المسألة، مع رعایة الاختصار:
فنقول تارة : یکون المجعول حکماً وضعیّاً، وهی الحجّیة المتعلّقة بذات القطع، وهذا ربّما یکون باطلاً؛ لأجل لزوم اللغویّة، أو یکون باطلاً لأجل اجتماع المثلین؛ بعد الفراغ من إمکان جعل الحجّیة.
وفیه : أنّ المراد من «الحجّیة» إن کان المعذّریة، فقد عرفت إمکان جعلها؛ لما تحرّر من إمکان الردع عن المعذّریة، فلا لغویّة، ولا اجتماع المثلین، وهکذا إذا قلنا: بأنّ الردع عن العمل بإیجاب مخالفة القطع، یلازم نفی حجّیته ومنجّزیته، إلاّ أنّه ممنوع کما أشرنا إلیه.
ولکن لزوم اللغویّة ممنوع مطلقاً؛ لأجل أنّ الفرار عن اللغویّة فی جعل الحجّیة، لاینحصر بترتّب الأثر علی المجعول بالذات، بل یکفی لو ترتّب علیه الأثر لأجل أمر آخر؛ فإنّ الأخباریّـین القائلین بعدم حجّیة القطع، یرتدعون عن مقالتهم لأجل ما یدلّ علیٰ حجّیة القطع مطلقاً، وهذا المقدار کافٍ کما لایخفیٰ.
وربّما یشیر إلیٰ بعض ما ذکرناه، قوله علیه السلام فی أخبار الاستصحاب: «ولکن ینقضه بیقین آخر» ولو کان ذلک ممتنعاً لکان الأمر بذلک غیر جائز، وخلاف ظاهر، فاغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 36
وأمّا لزوم اجتماع المثلین، فهو کلزوم اجتماع الضدّین، وقد تحرّر فی محلّه؛ أنّ هذه الاُمور لاتسری إلی الأحکام التی لا خارجیّة لها إلاّ بالاعتبار، کالحجّیة، والوجوب، والحرمة.
وبالجملة : لو سلّمنا حجّیة القطع، فهی لیست ذاتیّة اصطلاحیّة، بل هی کلازم الماهیّة لاینفکّ عنها، مع عدم انتزاعها من صراح ذاتها، فلا تکون خارجیّة، کالإمکان والوجوب من الموادّ الثلاث، فجعل الحجّیة له لایستلزم اجتماع المثلین، الممنوع عقلاً فی مثل اجتماع المصداقین للبیاض فی موضوع واحد. هذا کلّه لو کان المجعول عنوان «الحجّیة» التی یکون مصبّها القطع طبعاً.
واُخریٰ : یکون المجعول حکماً تکلیفیّاً، کما إذا أوجب موافقة القطع، فإنّه أیضاً لایستلزم محذوراً ولو کان مورد التکلیف القطع المتعلّق بالحکم الوجوبیّ، فضلاً عن القطع المتعلّق بالأعمّ منه والاستحبابیّ؛ فإنّه فی الفرض الأوّل یلزم من إطاعة أمر الصلاة ـ إذا کان مقطوعاً به ـ موافقة الأمرین، کما لو نذر فعل الصلاة الواجبة، ومن مخالفة أمر الصلاة مخالفة الأمرین.
وفی الفـرض الثـانی یلـزم فی صـورة الـمخالفـة عصیـان الأمـر الواحـد، کمـا هـو الواضح.
وأمّا لو کان مصبّ الإیجاب المزبور إطاعة الأمر المقطوع به، فربّما یقال: بأنّ ذلک من اللغو؛ لأنّ المکلّف إمّا ینبعث من أمر الصلاة، أو لاینبعث، فإن انبعث فلا حاجة إلی الأمر الثانی، وإن لم ینبعث فلا داعویّة له أیضاً، فیکون الأمر الثانی لغواً علیٰ کلّ تقدیر.
وفیه أوّلاً : أنّـه إشکـال لا یختـصّ بالقطـع؛ لاشتـراک سـائـر الطـرق معـه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 37
فی هـذه الجهـة .
وثانیاً : أنّه لو کان المکلّف لاینبعث من الأمر الأوّل، یلزم لغویّته أیضاً.
وثالثاً : أنّ الأمر لیس إلاّ فی حکم الإعداد أحیاناً للبعث، ولأجل استـتباعه للتوابع ـ کالعقاب والثواب ـ یکون محرّکاً بالعرض والمجاز، فإذا کان المکلّف ملتفتاً إلیٰ تبعات الأمرین فربّما ینبعث، مع أنّه لاینبعث عند الالتفات إلیٰ توابع الأمر الواحد، فلاتخلط.
ثمّ إنّ الإیجاب المزبور إذا کان متعلّقاً بإطاعة الأمر الأعمّ من الإیجابیّ والندبیّ، فلا یکون لغواً فی الفرض الثانی، ویکون کأوامر العناوین الثانویّة المتعلّقة بالمندوبات. بل فیما تعلّق بالواجبات یلزم بعض ما فیه مع ما فیه، ولاسیّما علی القول: بأنّ الأوامر الحاصلة من العناوین الثانویّة، متعلّقة بما تعلّقت به الأوامر الأوّلیة، فاغتنم.
وهنا إشکال ثانٍ علیٰ إیجاب إطاعة أمر المولی المقطوع به: وهو لزوم التسلسل والأوامر غیر المتناهیة؛ ضرورة أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة یدعو نحوها، والأمر المتعلّق بالإطاعة یدعو نحو الإتیان بها بعنوان الإطاعة، وحیث إنّ الأمر بالإطاعة ینحلّ إلی الکثیر، یکون للأمر المتعلّق بالإطاعة أیضاً إطاعة، وهی متعلّقة الأمر ... وهکذا.
وما فی «الدرر» من تجویز ذلک، ناشئ من عدم التوجّه إلیٰ ماهو الإشکال؛ ضرورة أنّ هذا الکثیر من الأوامر لابدّ وأن تکون تأسیساً مستقلاًّ، مع أنّ الکلّ یسقط بامتثال المأمور به بالأمر الأوّل، وهذا محال؛ لامتناع ترشّح الإرادة بالنسبة إلیٰ تلک الأوامر إلاّ تأکیداً، وهو خلف.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 38
ولذلک یظهر من «تهذیب الاُصول» امتناع إیجاب الإطاعة؛ للزوم العقوبات غیر المتناهیة، وهذا ممّا لایمکن الالتزام به؛ ضرورة أنّ العقل یأبیٰ عن کون عصیان الأمر الواحد، مستلزماً لمثله.
أقول : الذی یساعده الإنصاف عدم وجوب الإطاعة شرعاً، والذی یتناوله العقل إمکان ذلک عقلاً؛ لما یمکن من الأغراض الشتّیٰ فی ذلک. وأمّا امتناع ترشّح الإرادة التأسیسیّة، فهو فی مورد کانت النسبة بین الأمر المتعلّق بالصلاة وبالإطاعة متساویة، أو عموماً وخصوصاً مطلقاً، وأمّا فیما إذا کانت من وجه فلا بأس به.
وبالجملة : لاینبغی الخلط بین الامتناع العقلیّ والاستبعاد العرفیّ.
ثمّ إنّ هذه الشبهة یشترک فیها القطع وغیره من الطرق فی صورة الإصابة، ویختصّ القطع غیر المصیب بها، کما لایخفیٰ.
وأمّا الإشکال الآخر وهو رابع الشبهات: فهو أنّ إیجاب الإطاعة غیر معقول؛ لأنّ حقیقة الإطاعة ومقتضیٰ مادّة «الطاعة» هو الإتیان بالفعل بداعی أمره، فلایعقل أن یکون الأمر بها داعیاً إلیها، وإلاّ للزم عدم تحقّق موضوع الإطاعة، ویمتنع أن یکون الأمر المتعلّق بعنوان داعیاً إلیٰ إیجاد غیر ذلک العنوان.
وفیه : أنّ مادّة «الإطاعة» تقضی بعد کونها واجبة إتیان الصلاة بداعی أمرها، وأیضاً تقضی أن یأتی بالإطاعة المحقَّقة بفعل الصلاة بداعی الأمر بالإطاعة، فلاینبغی الخلط بین مقتضی الهیئة والمادّة.
فما فی «الدرر» جواباً غیر تامّ، کما أنّه فی تقریر الشبهة غیر وافٍ؛ فإنّ الشبهة : هی عجز المکلّف عن الامتثال ؛ لما لا یتمکّن من قصد الأوامر غیر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 39
المتناهیة التعبّدیة.
وماهو الجواب : هو أنّ الأمر الإیجابیّ المتعلّق بالطاعة توصّلی، ولایعتبر أن تکون الإطاعة بداعی أمرها، فلو صلّی العبد جاهلاً بأمر الإطاعة، یسقط أمرها، ویؤجر علیه، علیٰ ما تحرّر من إمکان استحقاق الثواب علی التوصّلیات، فلاتخلط.
فتحصّل : أنّ تدخّل الشرع بإیجاب الإطاعة، والإتیان بالمقطوع به تحت عنوان الإطاعة، ممّا لا محذور فیه عقلاً أیضاً، والأمر سهل، ونعوذ بالله تعالیٰ من أن نکون من المسرفین.
وبالجملة : لاینبغی الخلط بین ما یناله العقل، وما یدرکه العقلاء؛ فإنّ الأوّل هو إمکان إیجاب الإطاعة شرعاً، والثانی هو عدم وجوبها ولو اقتضت الهیئات ذلک؛ لأنّ الموقف لیس لائقاً بالإیجاب التکلیفی.
ولو قیل : النسبة بین الإطاعة ومتعلّق الأوامر هی المساواة، ولایعقل ترشّح الإرادتین التأسیسیّتین.
قلنا : الإطاعة الواجبة شرعاً، أعمّ من إطاعة الأمر والنهی، ومن إطاعة ما یستقلّ به العقل، وفی موارد سقوط الأمر بالمزاحمة علی القول به، وعلیٰ هذا یمکن أن یتخیّل کون النسبة بین متعلّق الإیجاب فی باب الإطاعة، ومتعلّق الوجوب فی باب الصلاة مثلاً، عموماً من وجه، فاغتنم وتأمّل تعرف.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 40