المقصد السابع فی القطع وأحکامه

الجهة الرابعة : حول جعل الحجّیة للقطع ووجوب موافقته

الجهة الرابعة : حول جعل الحجّیة للقطع ووجوب موافقته

‏ ‏

‏قد تعرّض فی «الدرر» مستقلاًّ لأمر آخر : وهو أنّ القطع هل یقبل أن یتعلّق‏‎ ‎‏به أمر المولیٰ، أم لا؟‏‎[1]‎‏ ونحن نشیر إلیٰ محتملات المسألة، مع رعایة الاختصار:‏

فنقول تارة :‏ یکون المجعول حکماً وضعیّاً، وهی الحجّیة المتعلّقة بذات‏‎ ‎‏القطع، وهذا ربّما یکون باطلاً؛ لأجل لزوم اللغویّة، أو یکون باطلاً لأجل اجتماع‏‎ ‎‏المثلین؛ بعد الفراغ من إمکان جعل الحجّیة.‏

وفیه :‏ أنّ المراد من «الحجّیة» إن کان المعذّریة، فقد عرفت إمکان جعلها؛‏‎ ‎‏لما تحرّر من إمکان الردع عن المعذّریة، فلا لغویّة، ولا اجتماع المثلین‏‎[2]‎‏، وهکذا‏‎ ‎‏إذا قلنا: بأنّ الردع عن العمل بإیجاب مخالفة القطع، یلازم نفی حجّیته ومنجّزیته، إلاّ‏‎ ‎‏أنّه ممنوع کما أشرنا إلیه.‏

‏ولکن لزوم اللغویّة ممنوع مطلقاً؛ لأجل أنّ الفرار عن اللغویّة فی جعل‏‎ ‎‏الحجّیة، لاینحصر بترتّب الأثر علی المجعول بالذات، بل یکفی لو ترتّب علیه الأثر‏‎ ‎‏لأجل أمر آخر؛ فإنّ الأخباریّـین القائلین بعدم حجّیة القطع، یرتدعون عن مقالتهم‏‎ ‎‏لأجل ما یدلّ علیٰ حجّیة القطع مطلقاً، وهذا المقدار کافٍ کما لایخفیٰ.‏

‏وربّما یشیر إلیٰ بعض ما ذکرناه، قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی أخبار الاستصحاب: ‏«ولکن‎ ‎ینقضه بیقین آخر»‎[3]‎‏ ولو کان ذلک ممتنعاً لکان الأمر بذلک غیر جائز، وخلاف‏‎ ‎‏ظاهر، فاغتنم.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 36
‏وأمّا لزوم اجتماع المثلین، فهو کلزوم اجتماع الضدّین، وقد تحرّر فی محلّه؛‏‎ ‎‏أنّ هذه الاُمور لاتسری إلی الأحکام التی لا خارجیّة لها إلاّ بالاعتبار، کالحجّیة،‏‎ ‎‏والوجوب، والحرمة‏‎[4]‎‏.‏

وبالجملة :‏ لو سلّمنا حجّیة القطع، فهی لیست ذاتیّة اصطلاحیّة، بل هی کلازم‏‎ ‎‏الماهیّة لاینفکّ عنها، مع عدم انتزاعها من صراح ذاتها، فلا تکون خارجیّة،‏‎ ‎‏کالإمکان والوجوب من الموادّ الثلاث، فجعل الحجّیة له لایستلزم اجتماع المثلین،‏‎ ‎‏الممنوع عقلاً فی مثل اجتماع المصداقین للبیاض فی موضوع واحد. هذا کلّه لو‏‎ ‎‏کان المجعول عنوان «الحجّیة» التی یکون مصبّها القطع طبعاً.‏

واُخریٰ :‏ یکون المجعول حکماً تکلیفیّاً، کما إذا أوجب موافقة القطع، فإنّه‏‎ ‎‏أیضاً لایستلزم محذوراً ولو کان مورد التکلیف القطع المتعلّق بالحکم الوجوبیّ،‏‎ ‎‏فضلاً عن القطع المتعلّق بالأعمّ منه والاستحبابیّ؛ فإنّه فی الفرض الأوّل یلزم من‏‎ ‎‏إطاعة أمر الصلاة ـ إذا کان مقطوعاً به ـ موافقة الأمرین، کما لو نذر فعل الصلاة‏‎ ‎‏الواجبة، ومن مخالفة أمر الصلاة مخالفة الأمرین.‏

‏وفی الفـرض الثـانی یلـزم فی صـورة الـمخالفـة عصیـان الأمـر الواحـد،‏‎ ‎‏کمـا هـو الواضح.‏

‏وأمّا لو کان مصبّ الإیجاب المزبور إطاعة الأمر المقطوع به، فربّما یقال: بأنّ‏‎ ‎‏ذلک من اللغو؛ لأنّ المکلّف إمّا ینبعث من أمر الصلاة، أو لاینبعث، فإن انبعث فلا‏‎ ‎‏حاجة إلی الأمر الثانی، وإن لم ینبعث فلا داعویّة له أیضاً، فیکون الأمر الثانی لغواً‏‎ ‎‏علیٰ کلّ تقدیر‏‎[5]‎‏.‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّـه إشکـال لا یختـصّ بالقطـع؛ لاشتـراک سـائـر الطـرق معـه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 37
‏فی هـذه الجهـة .‏

وثانیاً :‏ أنّه لو کان المکلّف لاینبعث من الأمر الأوّل، یلزم لغویّته أیضاً.‏

وثالثاً :‏ أنّ الأمر لیس إلاّ فی حکم الإعداد أحیاناً للبعث، ولأجل استـتباعه‏‎ ‎‏للتوابع ـ کالعقاب والثواب ـ یکون محرّکاً بالعرض والمجاز، فإذا کان المکلّف‏‎ ‎‏ملتفتاً إلیٰ تبعات الأمرین فربّما ینبعث، مع أنّه لاینبعث عند الالتفات إلیٰ توابع الأمر‏‎ ‎‏الواحد، فلاتخلط.‏

‏ثمّ إنّ الإیجاب المزبور إذا کان متعلّقاً بإطاعة الأمر الأعمّ من الإیجابیّ‏‎ ‎‏والندبیّ، فلا یکون لغواً فی الفرض الثانی، ویکون کأوامر العناوین الثانویّة المتعلّقة‏‎ ‎‏بالمندوبات. بل فیما تعلّق بالواجبات یلزم بعض ما فیه مع ما فیه، ولاسیّما علی‏‎ ‎‏القول: بأنّ الأوامر الحاصلة من العناوین الثانویّة، متعلّقة بما تعلّقت به الأوامر‏‎ ‎‏الأوّلیة، فاغتنم.‏

‏وهنا إشکال ثانٍ علیٰ إیجاب إطاعة أمر المولی المقطوع به: وهو لزوم‏‎ ‎‏التسلسل والأوامر غیر المتناهیة‏‎[6]‎‏؛ ضرورة أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة یدعو نحوها،‏‎ ‎‏والأمر المتعلّق بالإطاعة یدعو نحو الإتیان بها بعنوان الإطاعة، وحیث إنّ الأمر‏‎ ‎‏بالإطاعة ینحلّ إلی الکثیر، یکون للأمر المتعلّق بالإطاعة أیضاً إطاعة، وهی‏‎ ‎‏متعلّقة الأمر ... وهکذا.‏

‏وما فی «الدرر» من تجویز ذلک‏‎[7]‎‏، ناشئ من عدم التوجّه إلیٰ ماهو‏‎ ‎‏الإشکال؛ ضرورة أنّ هذا الکثیر من الأوامر لابدّ وأن تکون تأسیساً مستقلاًّ، مع أنّ‏‎ ‎‏الکلّ یسقط بامتثال المأمور به بالأمر الأوّل، وهذا محال؛ لامتناع ترشّح الإرادة‏‎ ‎‏بالنسبة إلیٰ تلک الأوامر إلاّ تأکیداً، وهو خلف.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 38
‏ولذلک یظهر من «تهذیب الاُصول» امتناع إیجاب الإطاعة؛ للزوم العقوبات‏‎ ‎‏غیر المتناهیة‏‎[8]‎‏، وهذا ممّا لایمکن الالتزام به؛ ضرورة أنّ العقل یأبیٰ عن کون‏‎ ‎‏عصیان الأمر الواحد، مستلزماً لمثله.‏

أقول :‏ الذی یساعده الإنصاف عدم وجوب الإطاعة شرعاً، والذی یتناوله‏‎ ‎‏العقل إمکان ذلک عقلاً؛ لما یمکن من الأغراض الشتّیٰ فی ذلک. وأمّا امتناع ترشّح‏‎ ‎‏الإرادة التأسیسیّة، فهو فی مورد کانت النسبة بین الأمر المتعلّق بالصلاة وبالإطاعة‏‎ ‎‏متساویة، أو عموماً وخصوصاً مطلقاً، وأمّا فیما إذا کانت من وجه فلا بأس به.‏

وبالجملة :‏ لاینبغی الخلط بین الامتناع العقلیّ والاستبعاد العرفیّ.‏

‏ثمّ إنّ هذه الشبهة یشترک فیها القطع وغیره من الطرق فی صورة الإصابة،‏‎ ‎‏ویختصّ القطع غیر المصیب بها، کما لایخفیٰ.‏

‏وأمّا الإشکال الآخر وهو رابع الشبهات: فهو أنّ إیجاب الإطاعة غیر معقول؛‏‎ ‎‏لأنّ حقیقة الإطاعة ومقتضیٰ مادّة «الطاعة» هو الإتیان بالفعل بداعی أمره، فلایعقل‏‎ ‎‏أن یکون الأمر بها داعیاً إلیها، وإلاّ للزم عدم تحقّق موضوع الإطاعة، ویمتنع أن‏‎ ‎‏یکون الأمر المتعلّق بعنوان داعیاً إلیٰ إیجاد غیر ذلک العنوان‏‎[9]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ مادّة «الإطاعة» تقضی بعد کونها واجبة إتیان الصلاة بداعی أمرها،‏‎ ‎‏وأیضاً تقضی أن یأتی بالإطاعة المحقَّقة بفعل الصلاة بداعی الأمر بالإطاعة،‏‎ ‎‏فلاینبغی الخلط بین مقتضی الهیئة والمادّة.‏

‏فما فی «الدرر» جواباً‏‎[10]‎‏ غیر تامّ، کما أنّه فی تقریر الشبهة غیر وافٍ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الشبهة : هی عجز المکلّف عن الامتثال ؛ لما لا یتمکّن من قصد الأوامر غیر‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 39
‏المتناهیة التعبّدیة.‏

‏وماهو الجواب : هو أنّ الأمر الإیجابیّ المتعلّق بالطاعة توصّلی، ولایعتبر‏‎ ‎‏أن تکون الإطاعة بداعی أمرها، فلو صلّی العبد جاهلاً بأمر الإطاعة، یسقط‏‎ ‎‏أمرها، ویؤجر علیه، علیٰ ما تحرّر من إمکان استحقاق الثواب علی‏‎ ‎‏التوصّلیات‏‎[11]‎‏، فلاتخلط.‏

فتحصّل :‏ أنّ تدخّل الشرع بإیجاب الإطاعة، والإتیان بالمقطوع به تحت‏‎ ‎‏عنوان الإطاعة، ممّا لا محذور فیه عقلاً أیضاً، والأمر سهل، ونعوذ بالله تعالیٰ من أن‏‎ ‎‏نکون من المسرفین.‏

وبالجملة :‏ لاینبغی الخلط بین ما یناله العقل، وما یدرکه العقلاء؛ فإنّ الأوّل‏‎ ‎‏هو إمکان إیجاب الإطاعة شرعاً، والثانی هو عدم وجوبها ولو اقتضت الهیئات ذلک؛‏‎ ‎‏لأنّ الموقف لیس لائقاً بالإیجاب التکلیفی.‏

ولو قیل :‏ النسبة بین الإطاعة ومتعلّق الأوامر هی المساواة، ولایعقل ترشّح‏‎ ‎‏الإرادتین التأسیسیّتین.‏

قلنا :‏ الإطاعة الواجبة شرعاً، أعمّ من إطاعة الأمر والنهی، ومن إطاعة ما‏‎ ‎‏یستقلّ به العقل، وفی موارد سقوط الأمر بالمزاحمة علی القول به، وعلیٰ هذا یمکن‏‎ ‎‏أن یتخیّل کون النسبة بین متعلّق الإیجاب فی باب الإطاعة، ومتعلّق الوجوب فی‏‎ ‎‏باب الصلاة مثلاً، عموماً من وجه، فاغتنم وتأمّل تعرف.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 40

  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 329 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 26 ـ 29 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 8 / 11، وسائل الشیعة 1 : 245، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1 .
  • )) الحکمة المتعالیة 2 : 100 ـ 105، لاحظ نهایة الدرایة 2 : 22 ـ 24 و 308 ـ 312.
  • )) لاحظ تقریرات المجدّد الشیرازی 2 : 238، درر الفوائد، المحقّق الحائری : 329 .
  • )) أوثق الوسائل : 4 / السطر 12 ، حاشیة کفایة الاُصول ، القوچانی 2 : 11 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 329 .
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 8 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 329 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 330 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 160 ـ 161 .