الجهة الاُولیٰ فی المراد من التجرّی لغة واصطلاحاً
اعلم : أنّ «التجرّی» هو الجرأة علی المولیٰ لغةً، ویشترک فیه العصیان.
واصطلاحاً : هو أن یخالف الحکم المقطوع به الإلزامیّ؛ تحریماً کان، أو إیجاباً، مع کون القطع مخالفاً للواقع.
وهو ذو مراتب، والمرتبة العلیا منه مخالفة الحکم المقطوع به، کما إذا شرب الماء المقطوعة خمریّته، والمقطوعة حرمته، ثمّ تبیّن ـ علیٰ سبیل منع الخلوّ ـ أنّه ماء، أو أنّ الخمر لیس بحرام مثلاً.
والمرتبة الدنیا مخالفة العلم العادیّ المتعلّق بحلّیة شرب التبغ، مع کونه موافقاً للواقع، فإنّ من کان محتاطاً فی هذه المرحلة، لایکون متجرّیاً علی المولیٰ بالضرورة؛ بلحاظ الاحتمال الموجود فی البین، ومن لا یحتاط، وکان یحتمل احتمالاً موهوماً ـ وإن کان مأموراً فی الشرع بطرحه ـ فإنّه یعدّ متجرّیاً عند العقل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 43
علیٰ مولاه، وما بینهما المتوسّطات.
وتوهّم : أنّ هذا لایعدّ من التجرّی؛ لأنّ فی تعریفه «أن یکون القطع مخالفاً للواقع» فی غیر محلّه.
نعم، التجرّی الذی هو مورد الخلاف أخصّ منه، ویکون مخصوصاً بما إذا تعلّق القطع أو ما بحکمه بتحریم شیء أو إیجابه، وقد تخلّف المکلّف عنه؛ لأجل عدم المبالاة بالعصیان وغیره.
وأمّا المراتب النازلة فلایلتزم أحد بممنوعیّته، کمن یشرب الماء المقطوع بمائیّته؛ تشبّهاً بالخمر فی الکیفیّة والحالة، فلاتخلط.
وبالجملة : ماهو محطّ النزاع هی المرتبة الاُولیٰ، وما یدنو منها، کمخالفة الحجّة، ومنها الاحتمال المنجّز، کما فی الشبهات المهتمّ بها.
وغیر خفیّ : أنّ من التجرّی ما إذا قطع بحرمة الخمر وارتکبها، وکانت الخمر محرّمة، ولکنّ قطعه غیر حاصل من الطرق المرضیّة؛ بناءً علیٰ ما مرّ من إمکان توسّل المولیٰ إلیٰ ذلک قبل حصول القطع، وامتناعُ الردع بعد حصوله لایوجب امتناع الردع قبله، فلیتدبّر.
وهم ودفع
لأحدٍ أن یقول: بأنّه فی موارد الطرق والأمارات لایکون تجرٍّ؛ لأنّ العبد ربّما یرتکب لأجل احتمال عدم الإصابة، ویرتکز فی نفسه ذلک إلیٰ حدّ یبادر إلیٰ مخالفتها برجاء عدم اصابتها، وخلافِها المشاهد فی کثیر من الموارد، فالتجرّی مخصوص بمورد یشترک فیه العاصی والمتجرّی.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 44
وفیه : أنّ کلمات جلّ منهم وإن کانت مخصوصة بالقطع، ولکنّ الأظهر عدم الفرق؛ وذلک لأنّ اختلاف مراتب التجرّی، لایورث خروج المفروض عن البحث؛ بعد اقتضاء بعض أدلّة تحریمه حرمة الفعل المتجرّیٰ به الأعمّ، ضرورة أنّ القبح إذا کان سبباً للتحریم أو لاستحقاق العقوبة، فهو موجود.
ولو قیل : إنّه فی مورد القطع یکون القبح موجوداً، بخلاف غیره من الأمارات؛ لأنّه قبح تقدیریّ.
قلنا : ماهو التقدیریّ هو القبح الفعلیّ، وأمّا القبح الفاعلیّ فهو موجود بالفعل بالوجدان، فلو کان یکفی القبح الفاعلیّ لاستحقاق العقوبة أو التحریم، فهو حاصل فی موارد التخلّف عن سائر الطرق والأمارات.
نعم، علی القول بالتصویب لایتصوّر التجرّی؛ لما لایکشف الخلاف. بل مقتضیٰ ما تخیّله القائلون بالتصویب، لزوم کون القطع مستـتبعاً للحکم عند الخطأ أیضاً؛ ضرورة أنّ صفة القطع من الممکنات المستندة إلی الشارع تکویناً، فلو کان الترخیص التشریعیّ فی باب الطرق والأمارات، مستـتبعاً للحکم المماثل، یکون الأمر کذلک فی إیجاد الطریق الخاطئ أیضاً، فاغتنم.
ثمّ إنّه لا یتصوّر التجرّی فیما کان القطع تمام الموضوع ؛ لما لا تخلّف له عن الواقع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 45