المقصد السابع فی القطع وأحکامه

هل یستتبع الظلم العقاب بناء علی استلزام القبیح للعقوبة ؟

هل یستتبع الظلم العقاب بناء علی استلزام القبیح للعقوبة ؟

‏ ‏

تتمیم :‏ هذا کلّه بناءً علی القول: بأنّ معنی استحقاق العقاب، هو استحقاق‏‎ ‎‏العقوبة جعالةً، فإنّه ممّا لایتمّ، فلاتـتمّ کبری القیاس المزبور: «وهی أنّ القبیح‏‎ ‎‏العقلیّ یستـتبع استحقاق العقوبة» أو «الظلم یلازم ذلک».‏

‏وأمّا إذا قلنا بانحصار العقوبة بلوازم الأفعال والأعمال، فالتجرّی ممّا لایکون‏‎ ‎‏فی ذاته عملاً، وأمّا الفعل المتجرّیٰ به فسیأتی فی المسألة الآتیة توضیح حاله.‏

ولو قلنا :‏ بأنّ العقوبة تکون من لوازم کلّ قبیح ولو لم یکن فعلاً خارجیّاً،‏‎ ‎‏کالإرادة فإنّها فیما تعلّقت بالمتجرّیٰ به تکون قبیحة؛ ضرورة أنّ الإرادة اختیاریّة‏‎ ‎‏حسب ما تحرّر، وتکون الإرادة المتعلّقة بالحسن حسنةً، وبالقبح قبیحةً، وأنّ العبد‏‎ ‎‏فی صورة التجرّی قد أوجد القبیح عقلاً؛ وهی الإرادة، وتستـتبع هذه الإرادة‏‎ ‎‏استحقاق العقاب والعقوبة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 70
أقول :‏ هذه المسألة ولو کانت کلّیة عقلیّة ومبرهنة فی محالّها‏‎[1]‎‏، إلاّ أنّ‏‎ ‎‏مصادیقها ممّا لاینالها العقل؛ لعدم اطلاعه علیٰ خصوصیّات تبعات الأخلاقیّات،‏‎ ‎‏لإمکان وجود بعض الاُمور المانعة منها، أو لعدم تمامیّة المقتضیات.‏

‏ولذلک لو تمّ هذا الکلام، للزم عدم جواز إجراء البراءة العقلیّة أو الشرعیّة فی‏‎ ‎‏موارد الشبهات، وحیث هی واضحة عند کافّة العقول، ومؤیّدة بالشرع المقبول،‏‎ ‎‏یستبان منه أنّ مجرّد إدراک القبح غیر کافٍ؛ ضرورة أنّه فی صورة العصیان، یحشر‏‎ ‎‏المرء مع صورة مؤذیة من سنخ ما شرّ به، نعوذ بالله تعالیٰ، وأمّا فی صورة التجرّی،‏‎ ‎‏فکون ذات الإرادة مستـتبعة لأمر، ولصورة مؤذیة ولعقاب، فهو غیر معلوم؛ لعدم‏‎ ‎‏منع من الشرع.‏

‏نعم، لو کان یکفی مجرّد القبح للزم ذلک، کما مرّ فی مثل العصیان والظلم،‏‎ ‎‏وکثیر من المحرّمات، فلیتأمّل جدّاً.‏

‏ ‏

وهم ودفع 

‏ ‏

لأحدٍ دعویٰ :‏ أنّ الإرادة فی صورة التجرّی لیست قبیحة؛ لأنّها لیست منبعثة‏‎ ‎‏عن المحرّم، ضرورة أنّ المتجرّی فی صورة القطع بالمحرّم، لاینبعث نحو المحرّم‏‎ ‎‏بإرادة التجرّی، وفی صورة قیام الأمارات الاُخر علی الحرام، أیضاً لایرید أن یتجرّأ‏‎ ‎‏علیٰ مولاه، بل یرید شرب المسکر، فإن صادف هذه الإرادة الواقعَ فقد أتیٰ بالإرادة‏‎ ‎‏القبیحة، وإلاّ فلاتکون الإرادة قبیحة، وبذلک ینحلّ الإشکال.‏

ویندفع :‏ بأنّ لازم هذا التقریب عدم قبح إرادة من یرید التبرید بشرب‏‎ ‎‏الخمر، وأنّه لایستحقّ العقوبة؛ لأنّ العقوبة مترتّبة علیٰ إرادة منبعثة عن عنوان‏‎ ‎‏محرّم، وفی المثال المزبور لیست الإرادة هکذا، فلا قبح، ولا استحقاق، وحیث إنّه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 71
‏لایمکن الالتزام بذلک، یتبیّن أنّ قبح الإرادة ـ بعد کونها اختیاریّة، واندفاع التسلسل‏‎ ‎‏فی صورة إرادة العصیان، أو صورة إرادة التبرید، وفی صورة التجرّی ـ مشترک‏‎ ‎‏وحاصل علیٰ نعت واحد، إلاّ أنّه ربّما یکون فی الضعف والشدّة مختلفاً؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏فی صورة التجرّی أقویٰ من المثال المزبور.‏

‏ ‏

فذلکة الکلام

‏ ‏

‏علی القول : بأنّ معنی استحقاق العقاب؛ هو استـتباع الأفعال القبیحة أو‏‎ ‎‏الأعمال النفسانیّة القبیحة، أو الصفات القبیحة للعقوبة؛ والصور المؤذیة‏‎[2]‎‏، فکون‏‎ ‎‏الفعل المتجرّیٰ به قبیحاً یأتی فی المسألة الآتیة.‏

‏وأمّا الإرادة، فهیلوسلّم قبحها لکونهااختیاریّة، فهیلأجل کونها ظلماً، کما مرّ.‏

‏وکون القبیح مستـتبعاً للعقوبة ممّا لایمکن تصدیقه؛ لأنّ علّیة القبیح ـ ولو‏‎ ‎‏کان فعلاً اختیاریّاً ـ لتلک الصورة غیر الملائمة، غیر معلومة، بل الظاهر من الشرع‏‎ ‎‏عدمه، فلزوم تعدّده ممنوع فی مثل العصیان مع کون مورده ظلماً وقبیحاً عقلیّاً،‏‎ ‎‏کالقتل ونحوه.‏

‏هذا مع أنّ استـتباع الإرادة لایلازم عموم المدّعیٰ؛ وهو استحقاق المتجرّی‏‎ ‎‏للعقاب؛ لما مرّ أنّ من التجرّی ترک مقطوع الوجوب‏‎[3]‎‏، وفی هذا المورد لا إرادة.‏

وأمّا توهّم :‏ أنّ القبح الناشئ من سوء السریرة لایستـتبع العقاب، دون الناشئ‏‎ ‎‏من قبح الفعل‏‎[4]‎‏، فهو أفحش فساداً؛ للزوم تکرار التبعات فی العصیان دون التجرّی‏‎ ‎‏فیما إذا کان المتجرّی یرید المخالفة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 72
‏وأمّا إذا لم تکن إرادة فی البین، فإن قلنا: بأنّ تبعات العقاب أعمّ من الأفعال‏‎ ‎‏والصفات، کما یظهر من طائفة من الأخبار‏‎[5]‎‏، فیثبت به عموم المدّعیٰ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المتجرّی والعاصی مشترکان فی سوء السریرة وخبث الباطن.‏

وتوهّم :‏ أنّ هذه الاُمور لیست اختیاریّة، فلو کانت مستـتبعة یلزم العقاب‏‎ ‎‏علیٰ أمر غیر اختیاریّ‏‎[6]‎‏، فی غیر محلّه؛ لما اُشیر إلیه: من أنّها کلّها قابلة للزوال، إلاّ‏‎ ‎‏أنّ زوالها یحتاج إلی الجدّ والاجتهاد، والعزم والتصمیم، والاستعانة بالله العزیز،‏‎ ‎‏ومرافقة الأبرار والأخیار، وعلیٰ هذا یجوز للشرع تحریمها؛ وإیجاب إزالتها.‏

‏ولکنّ الشأن أنّ علّیة هذه الاُمور للتبعات ممنوعة، بل هی معدّات ربّما تمنع‏‎ ‎‏من تأثیرها الأفعال الاُخر الخیِّرة، کالصوم، والصلاة، وأمثالها، فلا وجه لما اشتهر:‏‎ ‎‏«من أنّ القبیح یستلزم العقوبة، ویستـتبع الصور المؤذیة وغیر الملائمة»‏‎[7]‎‏ إلاّ علیٰ‏‎ ‎‏وجه الإعداد.‏

‏نعم، یبقیٰ شیء: وهو أنّ احتمال الاستـتباع، یکفی لدرک العقل لزومَ القیام‏‎ ‎‏بهدم بنیان سوء السریرة، وخبث الباطن، المنتهی إلی العصیان والطغیان، والتجرّی‏‎ ‎‏والکفران‏‎[8]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ من سکوت الشرع الأقدس، بل ومن رفع الحسد فی حدیث‏‎ ‎‏الرفع‏‎[9]‎‏، یستکشف أنّ هذه الصفات المذمومة والقبیحة، لا تستـتبع شیئاً إذا لم تنجّر‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 73
‏إلی المخالفة الخارجیّة؛ فإنّ الحسنات یذهبن السیّئات، قال الله تعالیٰ: ‏‏«‏أقِمِ الصَّلاٰةَ‎ ‎طَرَفَیْ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّیْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئَاتِ‏»‏‎[10]‎‏ فافهم واغتنم،‏‎ ‎‏وکن علیٰ بصیرة من أمرک؛ فإنّ الله غفور رحیم.‏

‏وممّا ذکرناه إلیٰ هنا یتبیّن مواضع الضعف فی کلمات القوم ـ رضی الله ‏‎ ‎‏عنهم ‏‎[11]‎‏ ولاسیّما «الکفایة»‏‎[12]‎‏ ومن یحذو حذوه‏‎[13]‎‏.‏

‏وتبیّن هنا أمر آخر: وهو أنّ القبیح المستـتبع للعقوبة، أعمّ من القبیح الفعلیّ‏‎ ‎‏والنعتیّ، وأنّ النعتیّ وإن لم یکن حصوله بالإرادة أحیاناً، إلاّ أنّ إمکان إزالته بها‏‎ ‎‏یکفی لصحّة العقاب علیها، ولکنّ الله رؤوف بعباده، وهو المستعان.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 74

  • )) لاحظ العرشیّـة : 66 ـ 68، الشواهد الربوبیّـة : 329.
  • )) لاحظ الحکمة المتعالیة 9 : 290 ـ 296، أنوار الهدایة 2 : 54 ـ 55 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 51 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینیّ) الکاظمی 3 : 49 .
  • )) کالأخبار الواردة فی ذمّ الکبر والحسد، لاحظ بحار الأنوار 70 : 179 ـ 262 .
  • )) تعلیقة المحقّق العراقی علیٰ فوائد الاُصول 3 : 49 .
  • )) الحکمة المتعالیة 9 : 290 ـ 296، الشواهد الربوبیّة : 329، نهایة الدرایة 1 : 297 ـ 299، أنوار الهدایة 1 : 54 ـ 55 .
  • )) لاحظ بحر الفوائد : 19 / السطر34 .
  • )) الخصال : 417 / 9 ، التوحید : 353 / 24 ، وسائل الشیعة 15 : 369 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما یناسبه ، الباب56 ، الحدیث 1 .
  • )) هود (11) : 114 .
  • )) الفصول الغرویّة: 430 ـ 431، مطارح الأنظار: 99، تقریرات المجدّد الشیرازی 3 : 288.
  • )) کفایة الاُصول : 300 .
  • )) نهایة الدرایة 3 : 29، نهایة الأفکار 3 : 31، نهایة الاُصول : 416 .