هل یستتبع الظلم العقاب بناء علی استلزام القبیح للعقوبة ؟
تتمیم : هذا کلّه بناءً علی القول: بأنّ معنی استحقاق العقاب، هو استحقاق العقوبة جعالةً، فإنّه ممّا لایتمّ، فلاتـتمّ کبری القیاس المزبور: «وهی أنّ القبیح العقلیّ یستـتبع استحقاق العقوبة» أو «الظلم یلازم ذلک».
وأمّا إذا قلنا بانحصار العقوبة بلوازم الأفعال والأعمال، فالتجرّی ممّا لایکون فی ذاته عملاً، وأمّا الفعل المتجرّیٰ به فسیأتی فی المسألة الآتیة توضیح حاله.
ولو قلنا : بأنّ العقوبة تکون من لوازم کلّ قبیح ولو لم یکن فعلاً خارجیّاً، کالإرادة فإنّها فیما تعلّقت بالمتجرّیٰ به تکون قبیحة؛ ضرورة أنّ الإرادة اختیاریّة حسب ما تحرّر، وتکون الإرادة المتعلّقة بالحسن حسنةً، وبالقبح قبیحةً، وأنّ العبد فی صورة التجرّی قد أوجد القبیح عقلاً؛ وهی الإرادة، وتستـتبع هذه الإرادة استحقاق العقاب والعقوبة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 70
أقول : هذه المسألة ولو کانت کلّیة عقلیّة ومبرهنة فی محالّها، إلاّ أنّ مصادیقها ممّا لاینالها العقل؛ لعدم اطلاعه علیٰ خصوصیّات تبعات الأخلاقیّات، لإمکان وجود بعض الاُمور المانعة منها، أو لعدم تمامیّة المقتضیات.
ولذلک لو تمّ هذا الکلام، للزم عدم جواز إجراء البراءة العقلیّة أو الشرعیّة فی موارد الشبهات، وحیث هی واضحة عند کافّة العقول، ومؤیّدة بالشرع المقبول، یستبان منه أنّ مجرّد إدراک القبح غیر کافٍ؛ ضرورة أنّه فی صورة العصیان، یحشر المرء مع صورة مؤذیة من سنخ ما شرّ به، نعوذ بالله تعالیٰ، وأمّا فی صورة التجرّی، فکون ذات الإرادة مستـتبعة لأمر، ولصورة مؤذیة ولعقاب، فهو غیر معلوم؛ لعدم منع من الشرع.
نعم، لو کان یکفی مجرّد القبح للزم ذلک، کما مرّ فی مثل العصیان والظلم، وکثیر من المحرّمات، فلیتأمّل جدّاً.
وهم ودفع
لأحدٍ دعویٰ : أنّ الإرادة فی صورة التجرّی لیست قبیحة؛ لأنّها لیست منبعثة عن المحرّم، ضرورة أنّ المتجرّی فی صورة القطع بالمحرّم، لاینبعث نحو المحرّم بإرادة التجرّی، وفی صورة قیام الأمارات الاُخر علی الحرام، أیضاً لایرید أن یتجرّأ علیٰ مولاه، بل یرید شرب المسکر، فإن صادف هذه الإرادة الواقعَ فقد أتیٰ بالإرادة القبیحة، وإلاّ فلاتکون الإرادة قبیحة، وبذلک ینحلّ الإشکال.
ویندفع : بأنّ لازم هذا التقریب عدم قبح إرادة من یرید التبرید بشرب الخمر، وأنّه لایستحقّ العقوبة؛ لأنّ العقوبة مترتّبة علیٰ إرادة منبعثة عن عنوان محرّم، وفی المثال المزبور لیست الإرادة هکذا، فلا قبح، ولا استحقاق، وحیث إنّه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 71
لایمکن الالتزام بذلک، یتبیّن أنّ قبح الإرادة ـ بعد کونها اختیاریّة، واندفاع التسلسل فی صورة إرادة العصیان، أو صورة إرادة التبرید، وفی صورة التجرّی ـ مشترک وحاصل علیٰ نعت واحد، إلاّ أنّه ربّما یکون فی الضعف والشدّة مختلفاً؛ ضرورة أنّ فی صورة التجرّی أقویٰ من المثال المزبور.
فذلکة الکلام
علی القول : بأنّ معنی استحقاق العقاب؛ هو استـتباع الأفعال القبیحة أو الأعمال النفسانیّة القبیحة، أو الصفات القبیحة للعقوبة؛ والصور المؤذیة، فکون الفعل المتجرّیٰ به قبیحاً یأتی فی المسألة الآتیة.
وأمّا الإرادة، فهیلوسلّم قبحها لکونهااختیاریّة، فهیلأجل کونها ظلماً، کما مرّ.
وکون القبیح مستـتبعاً للعقوبة ممّا لایمکن تصدیقه؛ لأنّ علّیة القبیح ـ ولو کان فعلاً اختیاریّاً ـ لتلک الصورة غیر الملائمة، غیر معلومة، بل الظاهر من الشرع عدمه، فلزوم تعدّده ممنوع فی مثل العصیان مع کون مورده ظلماً وقبیحاً عقلیّاً، کالقتل ونحوه.
هذا مع أنّ استـتباع الإرادة لایلازم عموم المدّعیٰ؛ وهو استحقاق المتجرّی للعقاب؛ لما مرّ أنّ من التجرّی ترک مقطوع الوجوب، وفی هذا المورد لا إرادة.
وأمّا توهّم : أنّ القبح الناشئ من سوء السریرة لایستـتبع العقاب، دون الناشئ من قبح الفعل، فهو أفحش فساداً؛ للزوم تکرار التبعات فی العصیان دون التجرّی فیما إذا کان المتجرّی یرید المخالفة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 72
وأمّا إذا لم تکن إرادة فی البین، فإن قلنا: بأنّ تبعات العقاب أعمّ من الأفعال والصفات، کما یظهر من طائفة من الأخبار، فیثبت به عموم المدّعیٰ؛ لأنّ المتجرّی والعاصی مشترکان فی سوء السریرة وخبث الباطن.
وتوهّم : أنّ هذه الاُمور لیست اختیاریّة، فلو کانت مستـتبعة یلزم العقاب علیٰ أمر غیر اختیاریّ، فی غیر محلّه؛ لما اُشیر إلیه: من أنّها کلّها قابلة للزوال، إلاّ أنّ زوالها یحتاج إلی الجدّ والاجتهاد، والعزم والتصمیم، والاستعانة بالله العزیز، ومرافقة الأبرار والأخیار، وعلیٰ هذا یجوز للشرع تحریمها؛ وإیجاب إزالتها.
ولکنّ الشأن أنّ علّیة هذه الاُمور للتبعات ممنوعة، بل هی معدّات ربّما تمنع من تأثیرها الأفعال الاُخر الخیِّرة، کالصوم، والصلاة، وأمثالها، فلا وجه لما اشتهر: «من أنّ القبیح یستلزم العقوبة، ویستـتبع الصور المؤذیة وغیر الملائمة» إلاّ علیٰ وجه الإعداد.
نعم، یبقیٰ شیء: وهو أنّ احتمال الاستـتباع، یکفی لدرک العقل لزومَ القیام بهدم بنیان سوء السریرة، وخبث الباطن، المنتهی إلی العصیان والطغیان، والتجرّی والکفران.
وفیه : أنّ من سکوت الشرع الأقدس، بل ومن رفع الحسد فی حدیث الرفع، یستکشف أنّ هذه الصفات المذمومة والقبیحة، لا تستـتبع شیئاً إذا لم تنجّر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 73
إلی المخالفة الخارجیّة؛ فإنّ الحسنات یذهبن السیّئات، قال الله تعالیٰ: «أقِمِ الصَّلاٰةَ طَرَفَیْ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّیْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئَاتِ» فافهم واغتنم، وکن علیٰ بصیرة من أمرک؛ فإنّ الله غفور رحیم.
وممّا ذکرناه إلیٰ هنا یتبیّن مواضع الضعف فی کلمات القوم ـ رضی الله عنهم ولاسیّما «الکفایة» ومن یحذو حذوه.
وتبیّن هنا أمر آخر: وهو أنّ القبیح المستـتبع للعقوبة، أعمّ من القبیح الفعلیّ والنعتیّ، وأنّ النعتیّ وإن لم یکن حصوله بالإرادة أحیاناً، إلاّ أنّ إمکان إزالته بها یکفی لصحّة العقاب علیها، ولکنّ الله رؤوف بعباده، وهو المستعان.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 74