بحث وتحقیق فی منجّزیة العلم الإجمالیّ
قد تبیّن فیما سلف: أنّ الأصحاب ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم تمسّکوا لتنجیز العلم الإجمالیّ بالوجدان من غیر إقامة البرهان، وأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان لاتجری فی المقام؛ لأنّ العلم بیان وجداناً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 190
وفی «تهذیب الاُصول» : إنّ البحث عن منجّزیة العلم الإجمالیّ، متأخّر عن مسألة لزوم المناقضة واحتمال التناقض، فلاتصل نوبة البحث إلیها، ولذلک لایجوز الترخیص فی محطّ البحث هنا حتّیٰ فی الشبهة البدویّة، مع أنّه لا علم هناک بالتکلیف، انتهیٰ محصّله.
وأنت خبیر بما فیه؛ فإنّ مسألة منجّزیة العلم الإجمالی فی محیط العقل، تارة: تقاس إلیٰ إمکان الترخیص عقلاً، واُخریٰ: إلیٰ إمکانه شرعاً، وما یلزم منه المناقضة واحتمالها هو الثانی، لا الأوّل؛ ضرورة إمکان کون الحکم الفعلیّ باقیاً علیٰ فعلیّته وحتمیّته، ومع ذلک یرخّص العقل فی الارتکاب؛ لأجل أنّ العقاب بلا بیان، والمؤاخذةَ بلا برهان، فما فی کلمات العلاّمة العراقیّ من الخلط غریب.
فما هو أصل البحث هنا: هو أنّ العلم الإجمالیّ ینجّز الواقع؛ علیٰ وجه یستحقّ العبد العقاب ولو ارتکب واحداً من الأطراف، وأتلف الطرف الآخر، أم لا، وأنّه یکون بیاناً حتّیٰ یصحّ العقاب، أو لا، وعندئذٍ یتبیّن: أنّ نوبة البحث تصل إلیٰ هذه المسألة.
نعم، فیما إذا وصلت النوبة إلیٰ إمکان ترخیص الشرع یثبت التنجیز؛ للعلم وجداناً، حسبما تمسّکوا به، وبرهاناً وهو المناقضة.
وبالجملة : منجّزیة العلم الإجمالیّ، لیس لها معنیٰ غیر أنّه إذا علمنا إجمالاً بتکلیف المولیٰ، فهل هو یورث العقاب؟ والجواب: نعم؛ لأنّه إذا لم یورث العقاب یلزم المناقضة، لأنّ عدم لزوم العقاب لأجل جریان الاُصول المؤمّنة فی الأطراف، وهذا یستلزم المضادّة والمناقضة. وعلیٰ کلّ تقدیر یکون الأمر سهلاً، کما لایخفیٰ.
وبالجملة : ربّما یشکل فی تمامیّة الوجدان وحکم العقلاء بالنسبة إلیٰ واحد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 191
من الأطراف والمخالفة الاحتمالیّة؛ لأجل أنّ القیاس المتشکّل من الشکل الأوّل، لایقتضی إلاّ حرمة المخالفة القطعیّة؛ فإنّه إذا قلنا: بـ «أنّ هذا خمر أو هذا، وکلّ خمر حرام، فهذا حرام أو هذا» فلایدرک العقل إلاّ ممنوعیّة ارتکاب المجموع.
کما أنّ الضرورة قاضیّة بأنّه لو وصل من الشرع ذلک، ینتقل منه إلیٰ جواز ارتکاب واحد من الإناءین، فلاینبغی الخلط بین البراءة الشرعیّة، وبین العقلیّة والعقلائیّة؛ فإنّ الشرعیّة لاتجری حتّیٰ فی الواحد منهما فی مفروض البحث، کما عرفت، وأمّا العقلیّة والعقلائیّة فلاتجری بالنسبة إلی المجموع، وأمّا بالنسبة إلی الواحد لا بعینه، فلایتمّ الوجدان، ولا البرهان.
وبالجملة : الوجدان یمنع إذا کان بناؤه علیٰ ارتکاب الأطراف، وارتکب المجموع وإن لم یکن عن بناءٍ سابق، وأمّا إذا کان بانیاً علیٰ إعدام الطرف الآخر، فارتکب أحدهما، وأعدم الآخر، فلا وجدان، ولا أقلّ من الشکّ ، فلاتـتمّ صحّة المؤاخذة؛ لأنّه لابدّ من ثبوت البیان حتّیٰ یصحّ المؤاخذة والعقاب.
أقول : لو جاز ارتکاب أحد الطرفین لجاز الطرف الآخر، وحیث لم یجز ارتکاب المجموع کما هو المفروض، فلم یجز ارتکاب واحد منهما أیضاً؛ وذلک لا لأجل ما قیل: من أنّ ارتکاب الإناء الثانی کالأوّل، والعلم بحصول المخالفة غیر ممنوع بالضرورة؛ لإمکان دعویٰ: أنّ العقل وإن کان لایمنع من العلم بالمخالفة فی الشبهات البدویّة؛ بتوسیط الجفر، أو غیره، ولکنّه یمنع هنا؛ لأنّه بواسطة ارتکاب الطرف.
وبعبارة اُخریٰ : إذا کان یریٰ أنّ البیان یتمّ بذلک، إمّا فی حقّه، أو فی حقّ الارتکاب الأوّل، فیستحقّ العقوبة ؛ لأجل تمامیّة البیان.
بل لأجل أنّ تجویز ارتکاب الإناء الأوّل إذا أمکن، فارتکاب الثانی أهون؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالیّ بعد ارتکاب الأوّل ینعدم، فلو کان لایؤثّر حین وجوده،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 192
فهل یعقل أن یؤثّر حین انعدامه؟!
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّه یؤثّر حین وجوده فی واحد لا بعینه، ویبقی الأثر بعد الانعدام فی الواحد الباقی، فتأمّل.
وإن شئت قلت : لو صدّقنا أنّ البیان بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة تامّ، فلنا السؤال عن أنّ ترخیص المخالفة الاحتمالیّة عقلاً، إمّا موضوعه الواحد الشخصیّ، أو واحد علی البدل؟ ولا سبیل إلی الثالث، کما لاسبیل إلی الأوّل، فتعیّن أن یکون البیان تامّاً علی الواحد لا بعینه.
وإذا کان تامّاً علی الواحد لا بعینه أیضاً، فإمّا معناه أنّه یتمّ علیٰ هذا العنوان، ولا سبیل إلیه، کما لا سبیل إلیٰ أنّه تامّ علی الواحد المعیّن، فلابدّ من القول: بأنّه تامّ بالنسبة إلی الحکم المعلومة کبراه تفصیلاً، وصغراه إجمالاً. ومعنیٰ هذا هو تمامیّة البیان علیٰ ماهو الواقع؛ إذا انطبق الارتکاب علیه، فیلزم حینئذٍ الاحتیاط عقلاً.
ولو صحّ ذلک عقلاً، فلا یعتنیٰ بما ربّما یتخیّل: من أنّ حکم العقلاء بجواز ارتکاب واحد وإعدام الآخر من غیر أن یکون بیان، علّة لحکمهم ودرک سبب تفکیکهم بین ارتکاب المجموع، وارتکاب الواحد.
وبعبارة اُخریٰ : إذا کان البیان علی الواحد منهما تامّاً، فإمّا یکون علیٰ عنوان «الواحد لا بعینه» أو علیٰ واقع لا بعینه، أو علیٰ ماهو الخمر واقعاً:
لا سبیل إلی الأوّل؛ للزوم کون البیان تامّاً علیٰ شرب الماء.
ولا إلی الثانی؛ لما لا واقعیّة له.
فیکون البیان وحجّة المولیٰ تامّا علیٰ ماهو الخمر، فإذا تمّت الحجّة فلابدّ من إمکان الاعتذار إذا خالفها، ولا عذر عقلاً بعد تمامیّة الحجّة. وأمّا شرعاً فقد مرّ تفصیله، فلاحظ واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 193