الجهة الثانیة : فی صحّة الامتثال الإجمالیّ
إذا کان المأتیّ به الإجمالیّ واجداً لجمیع مایعتبر فی المأمور به، فهل سبیل إلیٰ منع الامتثال مطلقاً، أم لا مطلقاً، أو یفصّل بین التوصّلیات والتعبّدیات، أو بین صورتی إمکان تحصیل العلم وعدمه، أو بین المتباینیـن والأقلّ والأکثر ؟ وجوه ، بل أقوال.
وما یمکن أن یستند إلیه للمنع المطلق أو للمنع فی الجملة اُمور :
أحدها : أنّ العقل الحاکم والملجأ والملاذ فی باب الطاعة، یدرک لزوم کون ما یمتثل به الأمر، فارغاً من جمیع الجهات المبعّدة، ویدرک لزوم کون المقرّب ـ بالحمل الشائع ـ خالیاً من کافّة الحیثیّات المبعّدة، ویدرک وجوب اختیار المصداق غیر الجامع لعناوین مقبّحة وباطلة. ولایعقل اجتماع المقرّب والمبعّد فی ظرف الامتثال؛ وفی ظرف سقوط الأمر.
فعلیٰ هذا، لو کان التکرار ولاسیّما فیما یزید علی الثلاث، أو الإتیان بالأکثر ـ ولاسیّما فیما إذا کان بالنسبة إلی الأقلّ، أکثر من الأضعاف ـ فیدور مثلاً الأمر بین الواحد والعشرة، فیأتی بالعشرة.
وبالجملة : لو کان التکرار من اللعب، ومن الکواشف عن عدم الاعتناء بشأن المولیٰ، والمظهرات لعدم الاهتمام بمرامه ـ کما إذا کان یحتمل دخالة الوحدة مثلاً
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 199
فی المأمور به، ولو کانت مرتفعة بحدیث الرفعـ یلزم اجتماع المقرّب والمبعّد، ویلزم کون المأتیّ به معانقاً للمبغوض، وقد حکم العقل وأدرک خلافه، کما مرّ فی التعبّدی والتوصّلی، وفی باب اجتماع الأمر والنهی.
ولو کان سقوط الأمر فی التوصّلیات من المقرّبات القهریّة؛ لأنّ العبد الآتی بالمأمور به واقعاً وإن لم یکن متوجّهاً إلیٰ الآمر ونهیه، قد وفیٰ بغرض المولیٰ، فإذا قلنا: بأنّ ذلک من المقرّب الواقعی سواء قصده أم لم یقصده، فیلزم اشتماله علی المبعّد، واجتماعهما غیر جائز، فسقوط الأمر المعلوم تفصیلاً بالمأتیّ به الإجمالیّ معلوم العدم، أو مشکوک، فالاکتفاء ممنوع.
ومن هنا یظهر : أنّ إخراج التوصّلیات من دائرة البحث، فی غیر محلّه وإن کان مورد اتفاقهم.
ویظهر: أنّ هذا التقریب یمکن إجراؤه فیالأقلّ والأکثر،ولایختصّ بالمتباینین.
ویظهر : أنّ القائلین بالامتناع کـ «الکفایة» وأتباعه، لابدّ لهم من القول بلزوم الامتثال التفصیلیّ، فـما ذهب إلیـه هنا خلاف ما بنیٰ علیه فی باب الاجتماع والامتناع.
ویظهر : أنّ منشأ الإشکال، عدم واجدیّة المأتیّ به لجمیع ما یعتبر فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 200
المأمور به؛ وهو أن یکون مقرّباً کما فی العبادات، فما فی «تهذیب الاُصول»: «من أنّ النزاع فی أنّ الامتثال الإجمالیّ، یکفی عن التفصیلیّ مع أنّ الإجمالیّ واجد لجمیع الشرائط» فی غیر محلّه؛ للزوم کون المأتیّ به فاقداً لجهة التقریب المعتبر شرطاً فی العبادات.
ویظهر : أنّ اختصاص النزاع بصورة القدرة علی الامتثال التفصیلیّ، فی غیر محلّه؛ لأنّه ولو کان غیر قادر علی الامتثال التفصیلیّ، یلزم احتمال الإخلال بشرط العبادة مثلاً فی الإجمالیّ، وعلیٰ هذا لایتمکّن فی صورة العجز عن التفصیلیّ من الامتثال الإجمالیّ.
نعم، لأجل الاحتمال المزبور الراجع إلی الشکّ فی القدرة، لابدّ من الاحتیاط أیضاً عقلاً من هذه الجهة.
وتوهّم : أنّه فی هذه الصورة لایکون عابثاً ولاعباً، فی محلّه بالنسبة إلیٰ ما إذا کانت الأطراف قلیلة، کالصلاتین، وأمّا إذا کثرت وبلغت إلی العشرة، فربّما یجیء الاحتمال، کما لایخفیٰ.
ثمّ إنّه ربّما یقال: إنّ العبد یدرک أنّه لایکون فی الجمع بین الأطراف، لاعباً ومستهزئاً وهاتکاً، فعلیه لاوجه لاستلزام الامتثال الإجمالیّ، إخلالاًبالواجب وقیوده.
وفیه : أنّه ولو کان الأمر کما تحرّر، ولکنّ المدار علیٰ أن یجد انتزاع القوم من عمله اللعب والهتک والاستهزاء مثلاً، فلو کان هو فی نفسه غیر لاعب، ویدرک اعتبار القوم من التکرار المزبور ذلک، فلایجوز؛ لأنّه أیضاً من الهتک والوهن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 201
لساحة المولیٰ.
هذا آخر ما یمکن أن یقال، ولکن ممّا یؤسف له أنّ إطالة البحث حول هذا الوجه، لاتنتهی إلیٰ وجه یطمئنّ الإنسان بصدقه، کما لایمکن الوثوق بجواز التکرار، مع القدرة علی التفصیلیّ علی الوجه المیسور جدّاً؛ لأنّه ربّما یکون ذلک خروجاً عمّا تعارف بین القوم فی الامتثالات بالنسبة إلیٰ أوامر موالیهم.
نعم، مع العجز، أو فی صورة تعسّر العلم التفصیلیّ، أو استلزام العلم التفصیلیّ لبعض المحاذیر العرفیّة، کالاستحیاء من السؤال عمّا هو المأمور به تفصیلاً، لایبعد.
وأمّا إذا خالف طریقة العقلاء فی انتخاب الامتثال الملازم لانضمام بعض الجهات المحرّمة، فالأظهر عدم الکفایة والاجتزاء؛ لما تحرّر منّا فی التعبّدی والتوصّلی وفی مباحث الضدّ: من أنّ انتخاب الفرد المشتمل علی الجهات المبغوضة، خلاف المتفاهم العرفیّ وإن أمکن الاجتماع جعلاً وامتثالاً، خلافاً للقائلین بالامتناع جعلاً وامتثالاً، أو امتثالاً فقط، کما عرفت تفصیله فلانعید، والله ولیّ التوفیق.
ثانیها : یظهر من الشیخ الأعظم الأنصاریّ قدس سره الإشکال فی التوصّلیات إذا کانت من قبیل العقود والإیقاعات؛ بدعویٰ: أنّ ذلک یستـتبع التردید فی الإنشاء، وهو ممنوع.
أقول: قد تعارف الاحتیاط المزبور فی عصرنا جدّاً، ولو کان ذلک خلاف الاحتیاط یشکل الأمر.
وربّما یقال : إنّ التردید فی الإنشاء، والتردّدَ فی قصد الإنشاء، غیر التردید
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 202
فیما هو الممضیٰ من الألفاظ التی ینشأ بها.
وفیه : أنّ التردید فی تلک الألفاظ، یستلزم وجداناً أنّ العاقد غیر مرید جدّاً حین الإنشاء، بل یکون بناؤه علیٰ إنشاء الزوجیّة بهذه الألفاظ إن تحقّقت، ولازم ذلک هو التعلیق اللبّی المورث للبطلان فی باب الإیقاعات، بل والعقود.
والذی یسهّل الخطب : أنّ من یتصدّیٰ للإنشاء، جاهل بأنّ الألفاظ التی یستعملها هل هی لغو، أو موضوع لاعتبار العقلاء والشرع، وعندئذٍ بداعی حصول تلک العلقة وحصول الموضوعیّة والسببیّة، یتصدّیٰ لذلک، وإذا فرغ من الأطراف یحصل له القطع بما هو الموضوع والسبب.
ولوکان بحسب اللبّ أنّه ینشئ الزوجیّة بها إن کانت تؤثّر فیها، فیکون تعلیقاً، ولکنّه تعلیق لبّی موجود حتّیٰ فی صورة العلم التفصیلیّ؛ بکفایة الألفاظ الکذائیّة حسب الأدلّة الخاصّة، کما لایخفیٰ، فیعلم منه أنّه تعلیق تقدیریّ، وهو لایضرّ.
ثالثها : أنّ من اللاّزم کون المأمور به، علیٰ وجه یصلح لأن ینتزع منه عنوان «الطاعة والإطاعة» نظراً إلیٰ لزوم إطاعة الله والرسول، ومفهوم «الإطاعة» لایحصل إلاّ بالانبعاث عن بعث المولیٰ، وهذا لایمکن تحصیله فی الامتثال الإجمالیّ؛ لأنّ فیه الانبعاث عن احتمال البعث، کما لایخفیٰ.
وهذا من غیر فرق بین صورتی القدرة علی الامتثال التفصیلیّ، وعدمها.
وبالجملة : یلزم الإخلال بالشرط فی الامتثال الإجمالیّ، وهو یورث ـ فی صورة العجز عن الامتثال التفصیلیّ ـ سقوطَ التکلیف، أو عدمَ اعتبار الشرط؛ حسبما تحرّر من الخلاف فی محلّه. ولذلک أو ذاک یمکن أن یختار الحلّی قدس سره
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 203
عدم جواز التکرار حتّیٰ فی صورة العجز عن الامتثال التفصیلیّ، والله العالم.
ومن هنا یظهر : أنّ ما حرّره العلاّمة النائینیّ قدس سره هنا من الوجه لاختصاص عدم کفایة الامتثال الإجمالیّ فی صورة القدرة علی الامتثال التفصیلیّ، بلا وجه؛ فإنّ هذا التقریب أعمّ. وتوهّم انتزاع «الطاعة» فی صورة العجز فی غیر محلّه؛ للزوم الخلف، وهوأنّ الطاعة ـ بحسب الواقع لاتنتزع إلاّمن الانبعاث عن البعث، فلاتخلط.
وبالجملة تحصّل : أنّ کفایة الامتثال الإجمالیّ إمّا فی عَرْض الامتثال التفصیلیّ، أو لایکون فی عَرْضه، ولا سبیل إلیٰ اختیار الطولیّة، کما یأتی من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ.
ثمّ إنّه هل قضیّة هذا الوجه، جواز الامتثال الإجمالیّ فی الإتیان بالأکثر ولو کان قادراً علی الامتثال التفصیلیّ فی الأقلّ والأکثر، کما یظهر من العلاّمة المزبور رحمه الله؟
أم لایکفی؛ لاشتراک المتباینین والأقلّ والأکثر فیما هو المحذور، کما یستظهر من «تهذیب الاُصول»؟
أم تختلف المسألة باختلاف المبانی فی الأقلّ والأکثر؟ وهو الأظهر؛ وذلک لأنّه إن قلنا: بأنّ امتثال الأجزاء؛ لأجل الانبعاث عن البعث الضمنیّ المتعلّق بکلّ جزء، فلایکون الانبعاث عن الجزء المشکوک وجوبه والمعلوم عدم مانعیّته ـ کما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 204
هو المفروض فی محلّ البحث عندنا ـ إلاّ انبعاثاً عن احتمال البعث، فلایتحقّق مفهوم «الطاعة» فالانبعاث إلیٰ جملة العمل بالانبعاث عن الأمر بالکلّ المردّد، لایکفی لکون الانبعاث إلی الجزء، انبعاثاً عن الأمر المعلوم.
وأمّا إذا قلنا : بأنّ حدیث الأوامر الضمنیّة من الأکاذیب الأوّلیّة ـ کما هو الحقّ ـ فلا انبعاث إلی الجزء المعلوم إلاّ بالانبعاث عن الأمر المتعلّق بالطبیعة؛ من غیر أن یکون هناک انبعاثان؛ أحدهما: إلی الکلّ، والثانی: إلی الأجزاء، بل هو انبعاث إلی الکلّ، ولکن حیث هو أمر تدریجیّ، یحصل تدریجاً، فلایلزم علیٰ هذا فی صورة الإتیان بالجزء المشکوک، انبعاث عن احتمال الأمر، بل الانبعاث عن الأمر، والإتیان بالجزء المشکوک انبعاث إلی الطبیعة؛ وإیجاد الطبیعة بالفرد الأبسط والأکثر حذراً من احتمال بقاء الأمر لأجل الجزئیّة المحتملة؛ من غیر فرق بین صورتی قبل الفحص وبعده فی هذه الجهة، کما لایخفیٰ. نعم قبل الفحص لابدّ من الاحتیاط، دون ما بعده.
وأمّا إطالة الکلام حول سائر المحتملات والصور ـ کاحتمال المانعیّة، وصورة الجزء الاستحبابیّ وغیره ـ فهی من اللغو الممنوع جدّاً.
أقول : یتوجّه إلیٰ هذه المقالة :
أوّلاً : أنّ الحقّ عدم تمامیّة اعتبار کون المأتیّ به، صالحاً لأن ینتزع منه عنوان «الإطاعة والطاعة» والأمرُ بإطاعة الله ورسوله، لیس إلاّ ناظراً إلیٰ امتثال الأوامر المتعلّقة بالطبائع، والنواهیالزاجرة عنها؛ من غیر لزوم ذلک، وإلاّ یلزم أصالة التعبّدیة، وخروج المحرّمات والتوصّلیات بالتخصیص، والالتزام به مشکل، فلو امتثل أحد العباد أمر الصلاة؛ بإتیان جمیع الأجزاء والشرائط، وفرضنا أنّه لاینزع منه عنوان «الطاعة» کفیٰ بالضرورة، فیعلم منه سقوط الشرط المتوهّم المزبور.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 205
وثانیاً : قد تحرّر منّا : أنّ قربیّة العمل ، لاتنحصر بالانبعاث عن البعث، بل یکفی لها إتیـان العمـل بالأغراض الشرعیّـة، والجهات الحسنة، وتطبیق تلک العناوین علیها.
وما قد یقال بالانحصار، یکون فی الضعف مثل قول من یقول: بأنّ الأمر لیس إلاّ موضوعاً للطاعة، کما عن الاُستاذ البروجردیّ قدس سره فإنّ القول الفصل هو الرأی الوسط، فربّما یکون القرب حاصلاً من الانبعاث عن البعث، کما فی صورة الغفلة عن کثیر من الدواعی، أو فی بعض الحالات الخاصّة، وربّما یأتی العمل القربیّ وإن لم یکن أمر، بل یکون الأمر وجوده وعدمه عنده سیّـین، ولذلک یقع العمل القربیّ صحیحاً ولو کان جاهلاً بالأمر، أو معتقداً بأنّ أوامر الله تعالیٰ لیست إلاّ ألطافاً فی الواجبات العقلیّة، فاغتنم وتدبّر جیّداً.
وثالثاً : لایکون فی صورة دوران الأمر بین المتباینین، انبعاث عن احتمال البعث، وإلاّ لانبعث فی الشبهة البدویّة، فمنه یعلم: أنّه أیضاً انبعاث عن البعث، إلاّ أنّه إجمالیّ لا تفصیلیّ، فلاتخلط.
وأمّا توهّم : أنّ الانبعاث عن احتمال البعث أطوع، فهو من الخلط بین الطاعة، وبین حسن ذات العبد؛ وکمال إخلاصه ، وفنائه فی الربّ، فما هو المقوّم لمفهوم «الطاعة» لایقبل الاشتداد والضعف، وما هو یقبل ذلک هی الصفات النفسانیّة، فما فی «التهذیب» وغیره هنا، غیر وجیه، والأمر سهل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 206