المقصد الثامن فی الظنّ

الجهة الثانیة : فی المراد من «الإمکان» المزبور

الجهة الثانیة : فی المراد من «الإمکان» المزبور

‏ ‏

‏لا شبهة عند المحصّلین فی أنّه لیس الإمکانَ الذاتیّ؛ لأنّه فی مقابل‏‎ ‎‏المستحیل الذاتیّ، کاجتماع النقیضین، ولا خفاء فی أنّ التعبّد المزبور؛ وجعل ما‏‎ ‎‏یؤدّی إلی الخلاف، لیس من المستحیلات الذاتیّة، بل لو استحال فهو لأمر آخر‏‎ ‎‏یطرأه ویقتضیه، کما أنّ استحالة اجتماع الضدّین والدور والتسلسل، کذلک کلّها؛‏‎ ‎‏لرجوعها إلی المناقضة واجتماع النقیضین، أو ارتفاعهما. بل امتناع شریک الباری‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 217
‏أیضاً للفساد، کما یظهر من الکتاب‏‎[1]‎‏، فتأمّل.‏

وبالجملة:‏ بعد الفراغ من ذلک فالاحتمالات خمسة؛ لأنّ جمعاً من الأفاضل‏‎ ‎‏والأعلام اختاروا أنّه الإمکان الوقوعیّ‏‎[2]‎‏؛ وأنّ الخلاف فی المسألة حول هذا‏‎ ‎‏الإمکان ومقابله، وهو الامتناع الوقوعیّ؛ وذلک لقیام المحاذیر الکثیرة علی التعبّد‏‎ ‎‏المزبور، فالتعبّد علی الوجه السابق ممتنع بالغیر، کامتناع المعلول بلا علّة، فإذا دفعنا‏‎ ‎‏تلک الشبهات یصیر ممکناً، ویصحّ أن یتعبّد به فی الشرع.‏

‏وحیث یتوجّه إلیه: أنّ المحاذیر لا تقبل الحصر العقلیّ، فلا سبیل إلی العلم‏‎ ‎‏بعدم وجود المحذور الآخر؛ ضرورة أنّ محاذیر ابن قبة کانت محصورة بین‏‎ ‎‏الأمرین، وصارت فی العصور المتأخّرة إلی الشبهات الکثیرة، وربّما تأتی فی‏‎ ‎‏العصور الآتیة شبهات اُخریٰ، فعندئذٍ لا یمکن استکشاف الإمکان الوقوعیّ بعد‏‎ ‎‏معلومیّة إمکانه الذاتیّ.‏

‏ولأجل هذه الشبهة اختار الشیخ الإمکان العرفیّ‏‎[3]‎‏، فإنّ بعد رفع المحاذیر،‏‎ ‎‏یکون حکم العقلاء علی الإمکان فی مسالکهم العرفیّة، فکان الخلاف هنا فی أنّه‏‎ ‎‏هل یمکن عرفاً التعبّد المزبور، أم لا یمکن عرفاً؟ فمن ادعی الثانی أقام المحاذیر،‏‎ ‎‏ومن دفعها یثبت لدیه الأوّل.‏

‏وفی «تهذیب الاُصول»: إنّ «الإمکان» هنا هو الاحتمال‏‎[4]‎‏، کما هو المراد‏‎ ‎‏من «الإمکان» فی قاعدة الإمکان فی الحیض عند جمع‏‎[5]‎‏، وهو المراد من القاعدة‏‎ ‎‏المعروفة عن الشیخ رئیس الصناعة، وهی: «أنّ کلّ ما قرع سمعک من غرائب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 218
‏الزمان وعجائب الدوران، فذره فی بقعة الإمکان ما لم یذدک عنه قائم البرهان»‏‎[6]‎‎ ‎‏وذلک لأنّ ممّا قرع سمعنا التعبّدُ بالأمارات والطرق والاُصول، فما دام لم یذدنا‏‎ ‎‏البرهان قائماً، یکون التعبّد بها ثابتاً؛ ضرورة أنّ رفع الید عن أدلّة اعتبارها مع الشکّ‏‎ ‎‏فی الإمکان، غیر جائز، ولا طریق لنا إلیٰ إثبات الإمکان الوقوعیّ، کما عرفت،‏‎ ‎‏فیکون المراد من «الإمکان» هو الاحتمال.‏

‏والمخالف لقیام المحاذیر العقلیّة، أنکر الإمکان، ونحن ـ لرفع تلک المحاذیر ‏‎ ‎‏لا نتمکّن من طرح الأدلّة بشهادة العقل والعرف‏‎[7]‎‏، انتهیٰ محصّل مرامه ـ مدّظلّه ‏‎ ‎‏بتصرّفات منّا.‏

أقول:‏ ما هو مورد کلام المتأخّرین؛ هو أن المراد من «الإمکان» ماذا؟ أی ما‏‎ ‎‏هو المراد من «الإمکان» المأخوذ فی العنوان المطرح للأنظار المختلفة؟.‏

‏فعلیٰ هذا یصحّ حمله علی الاحتمال؛ وأن یقال: هل یحتمل وقوع التعبّد، أم‏‎ ‎‏لا یحتمل وقوع التعبد؟ فان اُقیم البرهان علیٰ عدم صحّة الاحتمال بإثبات الامتناع‏‎ ‎‏فهو، وإلاّ فالاحتمال باقٍ علیٰ حاله، فإذا وجدنا الدلیل علیٰ وقوع التعبّد، لا یجوز‏‎ ‎‏طرحه.‏

‏وهذا أحسن ممّا فی «التهذیب» لما فیه من الإجمال والمناقشة، ولا معنیٰ‏‎ ‎‏لرفع الید عن العنوان المعروف إلیٰ ما جعله عنواناً.‏

‏ومن هنا یظهر: أنّ حمل «الإمکان» علی الإمکان الوقوعیّ، ثمّ لأجل سدّ‏‎ ‎‏الطریق إلیٰ إثباته نتمسّک بالإمکان العرفیّ، بلا وجه.‏

‏مع أنّه لا معنیٰ له إلاّ بدعویٰ: أنّ العرف یحکم بالإمکان الوقوعیّ، وهذا غیر‏‎ ‎‏واضح؛ لأنّ العقلاء یعملون علیٰ حسبما یحتاجون إلیه، ویحتجّون بما عندهم من‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 219
‏الحجج، وأما الحکم علیٰ شیء بکذا أو کذا، فهو خارج عن الطریقة العملیّة، ولا‏‎ ‎‏شبهة فی أنّ العقلاء یعملون بالأدلّة السمعیّة مادام لم یحرز امتناعه، فما فی کلام‏‎ ‎‏الشیخ‏‎[8]‎‏ أیضاً لا یخلو من الإشکال.‏

‏فعلیٰ ما تحصّل إلیٰ هنا، یسقط ما فی کلام کثیر من الأعلام: «من أنّ حمل‏‎ ‎‏«الإمکان» علی الاحتمال غیر جائز؛ لأنّه أمر لا خلاف فیه»‏‎[9]‎‏.‏

‏وفی «الدرر»: «إنّ الاحتمال موجود عند بعض، ولا یوجد عند آخر»‏‎[10]‎‏.‏‎ ‎‏انتهیٰ.‏

‏وذلک لأنّ العقل لا یجوّز احتمال المناقضة، ولا یجوّز احتمال وجود المعلول‏‎ ‎‏بلا علّة، لقیام البرهان علیٰ امتناعه، والوجدان علیٰ استحالته، وأمّا فیما نحن فیه فلا‏‎ ‎‏یأبیٰ عن الاحتمال؛ لعدم استحالته، ومن یدّعی الاستحالة لابدّ من إثباتها، وسیظهر‏‎ ‎‏المحاذیر الناهضة علیها مع ما فیها إن شاء الله تعالیٰ.‏

‏ ‏

بقی شیء

‏ ‏

‏إنّ هنا احتمالاً رابعاً: وهو أنّ المقصود من «الإمکان» هو الإمکان‏‎ ‎‏الاستعدادیّ، إلاّ أنّ الإمکان الاستعدادیّ حیث یکون من الاُمور الخارجیّة، بخلاف‏‎ ‎‏الإمکانین: الذاتی والوقوعیّ، ففیما نحن فیه یعتبر الإمکان الاستعدادیّ؛ لأجل أنّ‏‎ ‎‏البحث یکون حول أنّ الطرق والأمارات وأشباه هذه الاُمور حتّیٰ الاُصول، هل‏‎ ‎‏تکون قابلة للجعل والتنفیذ، أم لا تقبل ذلک، ولیست فیها القابلیّة؛ للمحاذیر الآتیة‏‎ ‎‏والتوالی الفاسده الکثیرة؟.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 220
وفیه:‏ أنّه یشبه الإمکان الوقوعیّ؛ لأنّه عند عدم وجود المحاذیر لا یمکن‏‎ ‎‏الحکم بالقابلیّة. نعم یمکن کشف الإمکان الوقوعیّ والقابلیّة الاعتباریّة؛ من جهة‏‎ ‎‏وقوعها فی الشریعة، فإنّه إذا قطعنا بأنّ الشرع اعتبر فی الجملة شیئاً یؤدّی إلیٰ‏‎ ‎‏خلاف الواقع، نقطع ـ حسب لازمه بالإمکان الوقوعیّ والقابلیّة المزبورة.‏

إن قلت:‏ بناءً علیٰ هذا یمکن حمل «الإمکان» علی الوقوعیّ، کما علیه‏‎ ‎‏الأکثر‏‎[11]‎‏.‏

قلت:‏ نعم، إلاّ أنّ البحث عن الإمکان واللاإمکان، مقدّم علی البحث عن‏‎ ‎‏الوقوع واللاوقوع.‏

‏والذی یساعده الطبع فی البحث، هو حمل «الإمکان» علیٰ ما لا یحتاج إلیٰ‏‎ ‎‏فرض وقوع التعبّد فی الشرع، مع أنّ الکلام فی المقام الأوّل حول إمکان الوقوع‏‎ ‎‏وعدمه.‏

‏ ‏

بقی شیء آخر

‏ ‏

‏وهو أنّ من المحتملات وهو خامسها وأضعفها: الإمکان التشریعیّ الواقع فی‏‎ ‎‏کلام العلاّمة النائینیّ ‏‏قدس سره‏‎[12]‎‏ وقد اُجیب عنه بما لا مزید علیه‏‎[13]‎‏.‏

‏والذی أزیده: أن الإمکان من الاعتبارات الفلسفیّة، ولیس من الاُمور‏‎ ‎‏التکوینیّة رأساً، حتّیٰ یقال: إنّ الإمکان هنا تشریعیّ، لا تکوینیّ، کما لا یخفیٰ علیٰ‏‎ ‎‏أهله.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 221

  • )) «لَو کٰانَ فیهِمٰا آلِهَةٌ إلاّ اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» الأنبیاء (21) : 22 .
  • )) کفایة الاُصول: 317، نهایة الأفکار 3: 56، نهایة الاُصول : 437 ، منتهی الاُصول 2 : 64.
  • )) فرائد الاُصول 1 : 40 .
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 59 .
  • )) روض الجنان : 72 ـ 73 / السطر29 ، القواعد الفقهیّة 1 : 18 .
  • )) شرح الإشارات 3 : 418 .
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 59 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 40 .
  • )) حقائق الاُصول 2 : 61 ـ 62 ، مصباح الاُصول 2 : 89 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 349 .
  • )) کفایة الاُصول: 317، نهایة الأفکار 3: 56 ، نهایة الاُصول : 437 ، منتهی الاُصول 2 : 64.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 88 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 56 ، أنوار الهدایة 1 : 191 ـ 192 ، تهذیب الاُصول 2 : 60 .