المقام الثانی : حول آثار الحجّیة
إنّ من آثار الحجّیة التنجیز والتعذیر فی خصوص حجّیة الأمارات، وما یحدو حدوها، ومن آثارها جواز الإفتاء، والقضاء، والحکم، والإخبار، والإسناد إلیٰ صاحب الشریعة.
وأیضاً: من آثارها الإتیان بالمؤدّیٰ علیٰ أنّه حکم الله ؛ ومن الإسلام والشرع.
فهل هذه الآثار ثابتة لما شکّ فی حجّیته مطلقاً، أو منتفیة عمّا یشکّ فی حجّیته، أم هی مختلفة؛ فمنها: ما یمکن إثباتها، ومنها: ما لایمکن ؟ وجوه.
وقبل الخوض فی هذه المسألة، نشیر إلیٰ مسألة مفروغ منها بینهم: وهی أنّ القدر المتیقّن من آثار الحجّیة الثابتة للأمارات وأشباهها، هو التنجیز والتعذیر، وهذا أمر مشترک فیه القطع، والاحتمال قبل الفحص، والاحتمال مطلقاً فی الشبهات المهتمّ بها، والظنّ علی الانسداد؛ بناءً علیٰ ماهو الحقّ من کونه حجّة بعد تمامیّة المقدّمات.
وأمّا جواز الإخبار والإفتاء والتدیّن والتعبّد العملیّ، فهو محلّ مناقشة؛ وذلک لأنّ ماهو الثابت شرعاً فی باب الطرق والأمارات العقلائیّة، لیس أمراً أزید عندهم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 267
وما اشتهر: «من أنّ الشرع تدخّل فیها بإتمام کشفها؛ وإلغاء احتمال الخلاف فیها» ودعویٰ «هوهویّة مؤدّاها مع الواقع» ودعویٰ «أنّها العلم» و «أنّها العلم النظامیّ» وغیر ذلک من العبارات التی یغترّ بها الفضلاء، فضلاً عن المحصّلین، کلّه فاسد جدّاً.
فلامعنیٰ لتجویز الإفتاء والإخبار ـ وغیر ذلک من الآثار الواضحة عندهم ـ إلاّ مع الدلیل، فما یجوز الإخبار عنه هو الإخبار عن تمامیّة الحجّة، والإفتاء بتمامیّتها، والإتیان بمؤدّاها؛ حذراً من الخلاف والمخالفة، من دون أن یتعبّد بمؤدّاها، ویتدیّن بمضامینها عملاً.
وهذا من غیر فرق بین أقسام الأمارات، فکما لایجوز ذلک کلّه بالنسبة إلیٰ مؤدّیٰ مظنون الصدور، کذلک لایصحّ بالنسبة إلیٰ مقطوع الصدور ومظنون الدلالة.
نعم، لمن حصّل القطع بالحکم یجوزذلک کلّه؛ بناءً علی امتناع الردع عنه، وعدم احتیاجه إلی الإمضاء فیالحجّیة، کما هومرام الکلّ، إلاّ ماعرفت منّا فی محلّه.
وبالجملة : لاتلازم بین الحجّیة وبین هذه الآثار ؛ لأجل ما أشرنا إلیه.
وأمّا إنکار الملازمة بینهما؛ لأجل ما فی«الکفایة»: من أنّ الظنّ علی الحکومة حجّة، ولایترتّب علیه الآثار، أو لأجل أنّ الاحتمال قبل الفحص حجّة، ولایترتّب علیه ذلک، فهو ـ مضافاً إلیٰ مناقشة فی المثال الأوّل ـ أنّ ما لیس بحجّة، هل یلازم انتفاء الآثار ولو لم تکن الحجّة ملازمة لها، أم لا؟ وماهو النافع هو الأوّل،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 268
کما سیأتی تحقیقه.
أقول : قد مرّ منّا فی مباحث الأوامر: أنّ من الأقوال فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب، هو القول بأنّ الأمر لایکون إلاّ حجّة محتاجة إلی الجواب، وإذا قصد المأمور عصیان الأمر، تجوز المؤاخذة علیٰ ذلک، ولایقبح العقاب، وعندئذٍ یجب عقلاً أن یسدّ العبد جمیع أبواب احتمال العقاب؛ حتّیٰ یستیقن بامتناع عقابه.
وقد ذکرنا هناک: أنّ هذه المقالة، ترجع إلیٰ إنکار صحّة الإفتاء علیٰ طبق الأمر والنهی، وهکذا الإخبار، مع أنّ سیرة السلف والخلف علیٰ جواز الإفتاء علیٰ طبقهما، من غیر حاجة إلی الأدلّة الخاصّة.
والسرّ کـلّ السرّ : أنّ البناءات العقلائیّة فی باب الأمارات والطرق، لاتنقص عن بنائهم فی باب القطع، فإنّه یحصل ـ حسب العادة النوعیّة، وحسب الموازین الغالبة الشائعة ـ من هذه الأمارات الوثوقُ والاطمئنان بالمؤدّیٰ والأحکام، وعندئذٍ یجوز الإخبار وسائر الآثار؛ لأنّ حجّیة الأمارات فی الحقیقة باعتبار انکشاف الواقعیّات بها نوعاً وغالباً، أو بناءً وعادة، ولذلک نجد أنّ القوم یسندون المؤدّیات إلیٰ موالیهم العرفیّـین. وما ورد فی الأخبار الخاصّة من الحثّ علی الإفتاء، لیس أمراً جدیداً وراء اعتبار الطرق والأمارات العقلائیّة.
وغیر خفیّ: أنّ انکشاف الخلاف فی کثیر من الأمارات والطرق، لیس بالغاً إلیٰ حدّ یعدّ ذلک بناءً من العقلاء. ولو فرضنا ـ کما لم یبعد عندنا ـ أنّ مسألة الکشف والوثوق بالخارجیّات فی موارد قیام الطرق والأمارات، لیست واضحة، بل کلّ ذلک
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 269
بناءات عادیّة حصلت أحیاناً فی الزمن الأوّل؛ لأجل الکشف الغالبیّ، وأمّا الیوم فهو مجرّد بناء، وهکذا فی عصر الأئمّة علیهم السلام ولکن مع ذلک فبناؤهم علی الإفتاء والإخبار والتدیّن، وهذا یکفی لحلّ هذه العویصة جدّاً.
وأمّا ما قد یقال: بأنّ المحرّم فی باب الإفتاء هو الإفتاء بغیر علم، وفی باب الإخبار والإسناد هو الإخبار بلا حجّة، وهکذا فی مسألة التدیّن والتعبّد، وإذا کانت الطرق حجّة شرعیّة ممضاة، تکون حاکمة علی الأدلّة الناهیة عن القول بغیر علم؛ ضرورة أنّ «العلم» المأخوذ فی الأدلّة هو الحجّة، کما تحرّر فی محلّه، والقول أیضاً أعمّ من الإفتاء وغیره، فهو متین، ولکنّه لایتمّ إلاّ فی مسألة الإفتاء بغیر علم، وأمّا الإخبار بغیر حجّة وعلم، أو التدیّن بدونه، فلم یوجد منه أثر فی الآثار.
ودعویٰ : أنّ «القول بغیر علم» یشمل الإخبار، غیر مسموعة؛ لأنّ المراد من ذلک هو الإفتاء بغیر علم، لا التقوّلات الیومیّة السوقیّة، فإنّه لو کان محرّماً، فلابدّ من أن یکون لأجل دلیل آخر، کما تحرّر فی محلّه.
فعلیٰ کلّ تقدیر : إنکار هذه الآثار بالنسبة إلی الطرق والأمارات، من قبیل إنکار الضروریّ. وأمّا عد الانقیاد من آثار الحجّیة ، فهو بمعزل عن التحقیق.
نعم، لابأس بعدِّ التجری منها؛ لاحتمال کون عنوانه أو الفعل، محرّماً مثلاً، وإلاّ فحسب التحقیق لا أثر له أیضاً، کما لایخفیٰ، والأمر سهل، فما فی «تهذیب الاُصول» و «الکفایة» لاینجو عن المناقشة، والله هو المستعان.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 270