المقصد الثامن فی الظنّ

فذلکة الکلام

فذلکة الکلام

‏ ‏

‏إنّ تحریر الأصل بالتمسّک بالقاعدة المضروبة لحال الشکّ، غیر تامّ إلاّ علی‏‎ ‎‏القول بعدم جریان استصحاب عدم الحجّیة، وتحریره بالاستصحاب المزبور غیر تامّ؛‏‎ ‎‏لما تحرّر منّا من عدم جریان أمثال هذه الاستصحابات الأزلیّة فی الشبهات الحکمیّة‏‎ ‎‏ذاتاً؛ لما لا حالة سابقة لعدم الوجوب وعدم الحجّیة‏‎[1]‎‏؛ ضرورة أنّ الإرادة التشریعیّة‏‎ ‎‏الإلهیّة أزلیّة ؛ إمّا متعلّقة بالحجّیة، أو لا تـتعلّق بها بعد ذلک فیما لایزال؛ لامتناع‏‎ ‎‏حدوث إرادته التکوینیّة والتشریعیّة، علیٰ ما تحرّر فی «قواعدنا الحکمیّة»‏‎[2]‎‏.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ القاعدة المضروبة لحال الشکّ، إن رجعت إلیٰ ما ذکرناه ـ وهو‏‎ ‎‏انتفاء آثار الحجّیة عن المشکوکة حجّیته ـ فهو أقلّ إشکالاً ممّا فی «الرسائل»: من‏‎ ‎‏إثبات حرمة التعبّد والتدیّن والإخبار والإسناد‏‎[3]‎‏، فإنّ ما ثبت بحکم العقل والسنّة‏‎ ‎‏ـ لا الکتاب والإجماع ـ هو حرمة التشریع القولیّ أو العملیّ بوجه مضیٰ‏‎[4]‎‏، وأمّا‏‎ ‎‏حرمة الإخبار والإسناد فلا، وقد عرفت تفصیله فی المقام السابق‏‎[5]‎‏.‏

إن قلت : ‏فی موارد الشکّ فی الحجّیة، لایجوز التمسّک بالأخبار المانعة عن‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 279
‏العمل بغیر العلم، ولا التقوّل بغیر العلم؛ لأنّه من الشبهة الموضوعیّة لنفس تلک الأدلّة‏‎ ‎‏إن قلنا: بأنّ أدلّة حجّیة الأمارات والاُصول، حاکمة علیٰ تلک الأدلّة، کما هو خیرة‏‎ ‎‏الأکثر فیخصوص الأمارات، وفی مثل الاستصحاب‏‎[6]‎‏.‏

‏أو من الشبهة المصداقیّة إن قلنا: بأنّها مخصّصة لها‏‎[7]‎‏؛ ضرورة أنّ العمل بتلک‏‎ ‎‏الحجج والتقوّل علیٰ طبقها، جائز کما مرّ‏‎[8]‎‏، فتکون مخصّصة لأدلّة المنع، وإذا شکّ‏‎ ‎‏فی حجّیة شیء، یکون من الشبهة المصداقیّة لتلک الإطلاقات، ومن الشبهة‏‎ ‎‏الموضوعیّة لدلیل المخصّص. ومن قبیل الأوّل لو قلنا: بورود أدلّة الحجّیة علیٰ تلک‏‎ ‎‏الأدلّة؛ لأنّ المراد من ‏«العلم»‏ فیها هو الحجّة.‏

وعلیٰ کلّ تقدیر:‏ لایصلح لتحریم العمل والقول تلک الأدلّة المانعة، فما فی‏‎ ‎‏«الرسائل»: من تحریم العمل والتعبّد بمجرّد الشکّ‏‎[9]‎‏، غیر صحیح حسب الصناعة.‏

قلت أوّلاً:‏ إنّ المراد من «العمل بغیر العلم» و«القول بغیر الحجّة» هو العمل‏‎ ‎‏حال الشکّ، والقول حال الشکّ والجهل بالحجّیة، فإنّ من السنّة ما فی الخبر: ‏«رجل‎ ‎قضیٰ بالحقّ وهولایعلم»‎[10]‎‏ فتکون تلک الأدلّة المانعة متعرّضةً لحال الشکّ والجهالة،‏‎ ‎‏لا لأمر وعنوان یکون له الواقع المتصوّر فیه الحالان: الواقعیّ، والمشکوک فیه، حتّیٰ‏‎ ‎‏تندرج المسألة فی معرکة التمسّک بالعامّ فی الشبهة الموضوعیّة، أو المصداقیّة.‏

‏وممّا یشهد لذلک : تمسّکهم فی هذا المقام بالعقل المدرک لقبح التشریع الذی‏‎ ‎‏هو فی حال الجهالة، أو العلم بالخلاف.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 280
وثانیاً:‏ لیس عنوان «الحجّة» خارجاً عن تلک الأدلّة، حتّیٰ یکون مشکوک‏‎ ‎‏الحجّة من الشبهة المصداقیّة، بل الخارج حکومة أو تخصیصاً عناوین الطرق‏‎ ‎‏والأمارات وما شابهها، وإذا شکّ فی حجّیة القیاس، یکون من الشکّ فی التخصیص،‏‎ ‎‏وإرجاع العناوین الکثیرة الخارجة إلی العنوان الواحد، فیه مفاسد، ومنها ذلک،‏‎ ‎‏فلاتغفل.‏

وثالثاً:‏ حدیث منع التمسّک بالعامّ ـ بل والمطلق ـ فی الشبهات المصداقیّة،‏‎ ‎‏ممّا یکذّبه البرهان والوجدان، وعلیه البناءات العقلائیّة، ولاسیّما فی القوانین الکلّیة‏‎ ‎‏العامّة التی ربّما ضربت لأمثال ذلک، وتفصیله فی محلّه‏‎[11]‎‏.‏

ورابعاً:‏ لو کان یجری استصحاب عدم الحجّیة کان لتنقیح موضوع تلک‏‎ ‎‏الأدلّة به وجه کما تریٰ. وهذا کلّه علیٰ تقدیر توهّم: أنّ ماهو المحرّم هو عنوان‏‎ ‎‏«العمل بغیر العلم، والمتعبّد والإسناد والاستناد لغیر الحجّة» علی الوجه المزبور.‏

ومن هنا ینقدح:‏ أنّ القول بأنّ التمسّک بتلک الأدلّة فی موارد الشکّ لو لم یکن‏‎ ‎‏جائزاً ، للزمت لغویّتها مع کثرتها، غیر واقع فی محلّه، والمهمّ ما عرفت من فساد‏‎ ‎‏مبنیٰ هذا الإشکال‏‎[12]‎‏. ولیعذرنی إخوانی علی الخروج عن الاعتدال.‏

التقریب الثانی :‏ الشکّ فی الحجّیة إذا کان قبل الفحص، یکون من الشکّ‏‎ ‎‏فی وصول ما هو الحجّة واقعاً، ویصحّ الاحتجاج به، ولذلک لیس هذا الشکّ مورد‏‎ ‎‏البحث.‏

‏وممّا یشهد له: تمسّکهم بالاستصحاب الذی لایجری إلاّ بعد الفحص؛‏‎ ‎‏لإمکان ورود الدلیل علیٰ حجّیة ما ینافیه. بل لا محلّ لجریانه مع وجود الحجّة‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 281
‏الموافقة أیضاً.‏

‏وإذا کان الشکّ بعد الفحص، فمع الظفر علیٰ ما یدلّ علیٰ حجّیة المشکوک،‏‎ ‎‏فلا کلام. وهکذا إذا عثر علیٰ ما یدلّ علیٰ عدم حجّیته کما مرّ‏‎[13]‎‏.‏

‏وقد أشرنا إلیٰ ذلک لدفع توهّم: أنّ القول بعدم جریان الاستصحاب بعد‏‎ ‎‏القاعدة، یختصّ بذلک، ولاتشترک معه الأمارة القائمة علیٰ عدم الحجّیة، وإلاّ یلزم‏‎ ‎‏جریان الاستصحاب أیضاً.‏

والسرّ:‏ أنّ موضوع القاعدة هو عدم العثور علیٰ ما یدلّ علی الحجّة‏‎ ‎‏واللاحجّة، وأمّا مع العثور علیٰ أحد طرفی المسألة فلا محطّ لها؛ لأنّ القاعدة لیست‏‎ ‎‏إلاّ إدراک العقل اقتضاء.‏

وبالجملة:‏ إذا فحص ولم یطّلع علیٰ ما یدلّ علی الحجّیة واللاحجّیة ، ولم‏‎ ‎‏یظفر علیه، فتارة: یکون بحسب الواقع غیر وارد فیه الخبر.‏

واُخریٰ:‏ یکون الخبر صادراً غیر واصل إلینا.‏

‏فعلی الأوّل لا بحث، وإنّما البحث فی الصورة الثانیة؛ فإنّ ما هو الحجّة‏‎ ‎‏بحسب الخبر غیر الواصل، هل یکون حجّة فعلیّة، أم لا؟‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ هل للحجّیة مرحلتان: مرحلة الثبوت والإثبات، ومرحلة‏‎ ‎‏الفعلیّة والتنجیز، کسائر الأحکام الإلهیّة؟‏

‏أم الحجّة أمرها دائر بین الفعلیّة واللافعلیّة، فیکون الشکّ فی الحجّیة، مساوقاً‏‎ ‎‏للقطع بعدم الحجّیة؛ لأنّ معنیٰ «الحجّة» هو ما یصلح للاحتجاج به، وهو حسب‏‎ ‎‏المفروض لایصلح عند کافّة العقول بالنسبة إلیٰ من لم یعثر علیه، ولایکون حجّة‏‎ ‎‏للمولیٰ علی العبد، ولا العکس، فلا وجه بعد ذلک للشکّ فی الحجّیة حتّیٰ‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 282
‏یستصحب؟‏

‏وهذا ما هو المشار إلیه فی کلامنا السابق‏‎[14]‎‏ ووعدنا به إشکالاً علی‏‎ ‎‏الاستصحاب، فرکن الاستصحاب منتفٍ جدّاً وإلیه یرجع کلام جملة من المحصّلین:‏‎ ‎‏«من أنّ الشکّ فی الحجّیة، عین القطع بعدم الحجّیة»‏‎[15]‎‏.‏

‏وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما فی کلمات «تهذیب الاُصول»‏‎[16]‎‏ فی تحریر محطّ‏‎ ‎‏البحث، وفی تقریرات العلاّمة النائینیّ ‏‏قدس سره‏‎[17]‎‏ والأمر سهل.‏

‏فبناءً علیٰ هذا، یجوز إسناد عدم الحجّیة إلی الشرع؛ لأنّ ماهو المقطوع عدم‏‎ ‎‏حجّیته، أی هو مقطوع عند الشرع أنّه لیس بحجّة؛ قضاءً لحقّ القطع والعلم بعدم‏‎ ‎‏الحجّیة، فإذا شکّ فی حجّیة إخبار ذی الید یصحّ الإخبار بـ «أنّه لیس حجّة جزماً»‏‎ ‎‏للقطع بعدم الحجّیة وهکذا، فتأمّل‏‎[18]‎‏.‏

فبالجملة:‏ بعد انتفاء آثار الحجّیة عن مشکوک الحجّیة، یقطع بعدم حجّیته،‏‎ ‎‏ویترتّب علیه آثار عدم الحجّیة؛ من حرمة التعبّد، والإسناد، والاستناد، ولاتصل‏‎ ‎‏النوبة إلیٰ ما مرّ فی ذیل التقریبین الماضیین.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 283

  • )) یأتی فی الجزء الثامن : 533 ـ 534 .
  • )) القواعد الحکمیة ، للمؤلّف قدس سره (مفقودة) .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 49 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 271 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 271 ـ 275 .
  • )) لاحظ فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 160 ـ 161 ، نهایة الأفکار 3 : 102 ـ 103 ، حقائق الاُصول 2 : 112 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 122 ، کفایة الاُصول : 339 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 270 ـ 271 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 52 .
  • )) وسائل الشیعة 27 : 22 ، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 4 ، الحدیث 6.
  • )) تقدّم فی الجزء الخامس : 251 وما بعدها .
  • )) تقدّم فی الصفحة 276 ـ 278 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 276 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 278 .
  • )) کفایة الاُصول : 322 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 123.
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 91 .
  • )) فوائد الاُصول 2 : 130 ـ 132 .
  • )) وجه التأمّل: أنّ القطع بعدم الحجّیة، کالقطع بعدم ترکّب الجسم من الأجزاء، وهذا لایستلزم صحّة الإسناد، فإنّ القطع بعدم حجّیة الظنّ عند العقلاء، لا ربط له بالشرع؛ لأنّ ذلک لیس مثل القطع بوجوب کذا، وحرمة کذا، وبرکعتی الفجر مثلاً؛ لأنّ عدم الحجّیة لیس مجعولاً شرعیّاً، ولا معتبراً ، لأنّ القضیّة سالبة محصّلة. نعم لو أجرینا الاستصحاب صحّ، فتدبّر (منه قدس سره).