المقصد الثامن فی الظنّ

أحدها : فی عدم البحث عن حجیة الظواهر بعنوانها

أحدها : فی عدم البحث عن حجیة الظواهر بعنوانها

‏ ‏

ربّما یقال:‏ إنّ ما هو الحجّة عند العقلاء؛ هو القطع، والاطمئنان والوثوق، وأمّا‏‎ ‎‏الأمارات ـ کالظواهر وغیرها ـ فهی الأسباب المورثة لهذه الحجج، ولیست هی‏‎ ‎‏حجّة إلاّ بالتسامح وبالعرض؛ وذلک لأنّ کاشفیّة هذه الاُمور وأماریّتها للواقع، غیر‏‎ ‎‏معقولة؛ لعدم السنخیّة بینها وبین الواقع، بخلاف الصور التی تحصل بسببیّتها فی‏‎ ‎‏نفوس العرف والعقلاء، فإنّها کواشف عن الواقعیّات، وبذلک یظهر: أنّ ما هو الحجّة‏‎ ‎‏هو الاطمئنان الشخصیّ والوثوق، لا النوعیّ.‏

‏نعم، من کان من العقلاء، لا یشکّ بعد قیام خبر الثقة، والظاهر، والید ـ وغیر‏‎ ‎‏ذلک من الأمارات الکلّیة والجزئیّة ـ إلاّ فی بعض الأحیان، ویکون خطوراً بالبال،‏‎ ‎‏ویعدّ من الشکّ غیر المستقرّ غیر النافی للاطمئنان والوثوق.‏

‏ولو کان للشکّ منشأ عقلائیّ؛ لقیام القرینة، أو ما یصلح للقرینیّة، فلا یکون‏‎ ‎‏حجّة واقعاً؛ أی لا یحصل الوثوق والاطمئنان والعلم العادیّ النظامیّ.‏

‏ولو رجع شکّه إلیٰ غیر هذا الأمر، فهو ملحق بالوسوسة والشیطنة، وصاحبه‏‎ ‎‏یلحق بالآخرین فی لزوم التبعیّة لهم. ولو اُرید من الحجّیة النوعیّة ذلک فلا‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 295

‏مشاحّة فیه.‏

‏والذی هو یهمّنا إثبات أنّ مسألة حجّیة الظواهر وإخبار الثقة، ممّا لا ترجع‏‎ ‎‏إلیٰ محصّل فی الواقع؛ وأنّ ما هو الحجّة واقعاً هی المعانی الحاصلة منها، المغفول‏‎ ‎‏عنها فی محیط العرف والعقلاء.‏

فتوهّم:‏ أنّ إثبات حجّیة هذه الاُمور، معناه حجّیتها سواء حصل منها الوثوق،‏‎ ‎‏أم لا، أو إثبات حجّیتها ولو حصل منها الظنّ بالخلاف، أو حصل الظنّ بالخلاف من‏‎ ‎‏أمر آخر، غیر راجع إلیٰ محصّل، أو غیر منافٍ لما ذکرناه، کما هو الواضح؛ ضرورة‏‎ ‎‏أنّ دعوانا عدم حصول الشکّ ولا الظنّ بالخلاف، بل یحصل منها الوثوق والعلم‏‎ ‎‏العادیّ طبعاً، ومن لم یحصل له ذلک فإمّا یکون لمنشأ عقلائیّ مصدَّق عند العقلاء،‏‎ ‎‏فلنا إنکار حجّیتها، ومن یدّعیه مجازف فی القول؛ لعدم إطلاق یقتضیها.‏

‏وإمّا لا یکون له المنشأ، فلا یکون من العقلاء، ویلحق بهم فی لزوم التبعیّة‏‎ ‎‏لهم فی هذه الصورة، فتصیر النتیجة واحدة، فافهم واغتنم.‏

‏فما اشتهر بین أبناء العصر: من حجّیة هذه الاُمور، لأجل الکشف النوعیّ‏‎ ‎‏الغالبیّ، وللإصابة الأکثریّة‏‎[1]‎‏، یرجع إلیٰ تعبّد من العقلاء بهذه القاعدة، وإلیٰ تدیّن‏‎ ‎‏من غیر المتدیّنین بأمر وراء الاُمور العقلائیّة، وهذا من الاُمور غیر الواقعیّة، وقد‏‎ ‎‏أوضحناه فیما توهّموه أصلاً عقلائیّاً، فإنّ الاُصول العقلائیّة اختراعات مدرسیّة‏‎ ‎‏تحمیلیّة علیهم، وما هو الموجود عندهم لیس إلاّ العلم والوثوق بالواقع ونفس‏‎ ‎‏الأمر.‏

فتحصّل:‏ أنّ تبویب هذا المقصد إلیٰ أبواب، وتقسیم الظنون الخاصّة إلیٰ‏‎ ‎‏أقسام، والبحثَ عن کلّ قسم علیٰ حِدة، من الغفلة عن حقیقة الأمر، وأنّ الاطمئنان‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 296

‏والوثوق والقطع حجّة، وإنّما الکلام فی الأسباب المنتهیة إلیها، فکما أنّ القطع حجّة‏‎ ‎‏من أی سبب حصل إلاّ من الأسباب الخاصّة ـ وقد مرّ إمکان نفی الحجّیة عنه‏‎ ‎‏مطلقاً‏‎[2]‎‏ کذلک الوثوق والاطمئنان حجّة عقلائیّة، إلاّ أنّه یحتاج إلی الإمضاء،‏‎ ‎‏وللشرع الردع عن ظواهر ما أو غیرها، أو تقیید السبب باُمور شرعیّة مثلاً، کما فی‏‎ ‎‏تقیید خبر الثقة بالإمامیّ ونحوه. وأمّا حجّیة هذه الأسباب بعناوینها الذاتیّة‏‎ ‎‏استقلالاً، فهی بمعزل عن التحقیق.‏

‏فعلیٰ هذا، یتمحّض البحث فی أنّ الشرع ردع عن هذه الأسباب؛ أو لم یمضِ‏‎ ‎‏تلک العلل، أم لا؟.‏

وإن شئت قلت:‏ البحث فی کتاب الظنّ، یرجع إلیٰ أنّ الوثوق والعلم العادیّ،‏‎ ‎‏حجّة عقلائیّة کالقطع، وإنّما البحث فی أنّ الشرع تدخّل فی هذا الأمر؛ برفض‏‎ ‎‏الوثوق الحاصل من ظاهر الکتاب، أم لا، وهذا فی الحقیقة یرجع أیضاً إلیٰ عدم‏‎ ‎‏حصول الوثوق منه؛ بعد إقامة القرینة علی المنع عن الأخذ به، کما لا یخفیٰ.‏

‏أو أنّ الوثوق یحصل من الخطابات غیر المقصود إفهامها، أم لا، فیکون‏‎ ‎‏بحثاً صغرویّاً.‏

وبالجملة :‏ ینقلب أساس البحث الذی علیه بناء أصحابنا من الابتداء إلیٰ‏‎ ‎‏عصـرنا.‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 297

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 135 ، نهایة الدرایة 3 : 170 ، لاحظ نهایة الأفکار 3 : 89 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 26 ـ 27 .