المحتملات فی الطرق
أقول: إنّ الاحتمالات فی مسألة الأمارات والطرق العقلائیّة ثلاثة:
الأول: ما ذهب إلیه المشهور، واشتهر بین المحقّقین: وهو أنّ الطرق والأمارات ـ کالظهور وخبر الثقة ـ حجّة بعنوانیهما الذاتیّـین، وتکون الکاشفیّة عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 297
الواقع نکتة وحِکمة الحجّیة، ولیست الحجّیة دائرة مدارها؛ ولأجل ذلک اختاروا حجّیتها حتّیٰ فی صورة الظنّ الشخصیّ المخالف، وسیأتی دلیلها ووجهها عند التعرّض لذات المسألة.
الثانی: ما قوّیناه فی الأزمنة الاُولیٰ، وقد ذکرناه هنا؛ وأنّ الحجّیة مخصوصة بالوثوق والاطمئنان الحاصل من تلک الأسباب، ولو لم یحصل عقیب قیام الظهور والخبر الموثوق به، وثوق وعلم عادیّ، فلابدّ له من منشأ، فإن کان منشأه الأمر العقلائیّ فهو لیس بحجّة. وإن کان منشأه غیر عقلائیّ، فلا یعتنیٰ به، ویلحق بالآخرین بحکم العقلاء.
فلو قام ظهور علیٰ أمر، مع اقترانه بما یصلح للقرینیّة عند العقلاء، فلا حجّیة، وفی غیر هذه الصورة تکون الصورة العلمیّة الحاصلة من هذه الأسباب حجّة، وهی تحصل عادة کحصول القطع وراء الإبصار والاستماع وغیر ذلک، وقلیلاً ما لا یحصل القطع للإنسان؛ باحتمال الخطأ فی الباصرة والسامعة.
نعم، للشرع جعل الحجّیة لذات الظهور ولخبر الثقة علی الإطلاق، فإن ثبت ذلک فهو المتّبع، کما له الردع عن حجّیة الوثوق الحاصل من السبب الخاصّ، کظهور الکتاب وغیره.
الثالث: أنّ حجّیة الأمارات العقلائیّة والظنون الخاصّة، لیست دائرة مدار الوثوق، ولا مرهونة بالکاشفیّة الغالبیّة والإصابة الأکثریّة، الموجبة للوثوق النوعیّ والاطمئنان الأکثریّ، بل هی عبارة عن بناءات عقلائیّة محضة؛ والتزامات عرفیّة فقط، فلو کان فی أوّل حدوث هذه البناءات وجه للحجّیة، أو کانت الحجّیة لأجل الملازمة الکلّیة بین حصول الوثوق الشخصیّ وبین هذه الأمارات، ولکن فی عصرنا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 298
لیس إلاّ مجرّد الالتزام العقلائیّ والبناء العملیّ من غیر مراعاة الاُمور الاُخر وراء ذلک، إلاّ إذا حصل الوثوق ـ أو ما یقرب منه ـ علیٰ خلاف تلک البناءات المتعارفة.
مثلاً: إنّا إذا رجعنا فی عصرنا الوسائط النقلیّة المتعارفة التی تؤدّی کثیراً إلی الأخطار المهلکة، نجد أنّه لا وثوق شخصیّ ولا علم ولا اطمئنان بالوصول إلی المقصود، ولکن بناء الناس علیٰ ذلک، وما هذا إلاّ لأجل الاعتیاد من غیر اشتراط العمل بالوثوق، مع أنّ العلقة کبیرة جدّاً بالنسبة إلی النفوس والأرواح، التی تکبّدت خسائر کثیرة فی الاصطدامات الخارجیّة من ناحیة هذه الوسائط.
وهکذا بناؤهم علی العمل بالظواهر وأخبار الثقات من غیر النظر إلی الکشف النوعیّ والغالبیّ والإصابة الأکثریّة.
ولعلّ وجه ذلک: أنّ النظام فی العالم الاجتماعیّ والمعیشة الاجتماعیّة، لا یرتبط ولا یقوم إلاّ بذلک، وإلیه اُشیر فی بعض روایاتنا فی مقام التعلیل: وأنّه «لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق» فهذه الأسرار الاُخر ألجأتهم إلی الالتزامات المذکورة؛ والبناءات العملیّة، ولو فرضنا أنّه لو لم یحصل الوثوق النوعیّ والاطمئنان الغالبیّ من تلک الأمارات، للزم ترکهم العمل بها، وللزم الاختلال والهرج والمرج فی معاشهم ومعادهم، وهم مع ذلک ملتزمون بذلک، فهو غیر صحیح قطعاً.
فیعلم منه: أنّ هذا لیس إلاّ مجرّد البناء والالتزام، ولابدّ من الفحص عن حدود تدخّل الشرع فی ذلک إمضاءً وردعاً؛ لإمکانه فی الجملة، کما مضیٰ وجه إمتناعه فی ذیل حدیث إمکان التعبّد بالظنّ، فراجع.
والذی هو الأقرب من اُفق التحقیق: أنّ الوجه الأوّل غیر سدید؛ ضرورة أنّه کثیراً ما لا یحصل الوثوق الشخصیّ لأجل وجود القرائن الجزئیّة، أو لأجل عدم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 299
الاطلاع علیٰ حال المتکلّم؛ من أنّه یتکلّم وسیکون کلامه مردّداً بین الهزل والجدّ، أو هو جدّ ولا هزل فیه، أو بالعکس، فإذا لم یکن العبد واقفاً علیه، لا یحصل منه الوثوق، ولا یجوز له القعود فی قبال أمره ونهیه، وهکذا فی الأشباه والنظائر، فربّما لا یحصل الوثوق الشخصیّ من الظاهر؛ لأجل القرینة الخاصّة الجزئیّة، وهو أمر کثیر الدور حسب اختلاف النفوس.
وأمّا ما مـرّ: من أنّ الحجّیة صفة العلم، فهو غیر تامّ؛ لإمکان جعل الاحتمال حجّة.
نعم، الکاشفیّة والطریقیّة والأماریّة، صفة العلم، وإتصاف الکلام بالأماریة فیه نوع من المجازیّة؛ لأنّ الأماریّة لیست بالوضع والجعالة، فتأمّل. ولزوم الملازمة بین ما هو الحجّة العقلائیّة، وما هو الکاشف والطریق الطبیعیّ العقلائیّ، ممنوع کما لا یخفیٰ.
وأمّا الوجه الثانی فهو وإن کان متیناً، إلاّ أنّه مخصوص بعصر حدوث هذه الطرق والأمارات، وفی العصر الأوّل البسیط فیه معاش الناس، وسیاستهم المنزلیّة، والدولیّة، والدینیّة، وأمّا فی عصرنا فالوجه الثالث یکون أقرب إلی التحقیق.
ولا بأس بالالتزام بدخالة الکاشفیّة النوعیّة الموجودة فی الجملة أیضاً؛ لأجل أنّه إذا بلغ الأمارة والطریق إلیٰ حدّ السقوط عن الکشف، لا یعتنیٰ بها، إلاّ أنّه فی ناحیة الاعتماد علیها، لا یلاحظ فیها نسبة الکشف والإصابة إلی الخطأ بالضرورة.
وعلیٰ کلّ تقدیر: لابدّ من مراجعة الأدلّة إثباتاً؛ وأنّ الشرع هل أمضیٰ هذه الأمارات الخاصّة المستثناة من الأصل المزبور، أم لا، وهل ردع منها شیئاً، أو اعتبر فیها قیداً، أم اعتبر التوسعة فیها؟ فلاحظ وتدبر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 300