ثالثها : فی بیان مقدّمات انعقاد الظهور التصدیقی
لا بأس بالإشارة إلی الاُمور التی بها ینعقد الظهور التصدیقیّ للکلام؛ حتّیٰ یصیر البحث هنا نافعاً وکاملاً:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 303
فمنها: العلم بالوضع، سواء حصل من التبادر والاطلاع الخاصّ، أم بأصالة اتحاد العرفین وعدم النقل والاستصحاب القهقریّ، أو لقول اللغویّ؛ بناء علی القول باعتباره.
وهذا کما یحتاج إلی العلم بالموادّ، لابدّ من العلم بالهیئات التامّة والناقصة؛ فإنّ لکلّ منها وضعاً خاصّاً نوعیّاً، أو شخصیّاً أحیاناً.
ومنها: العلم بالاستعمال؛ وأنّه حقیقیّ أو مجازیّ، کنائیّ أو استعاریّ، فإنّه إذا حصل ذلک فلا مورد للرجوع إلیٰ أصالة الحقیقة، أو أصالة عدم القرینة، وعدم التخصیص والتقیید.
وأمّا إذا شکّ فی ذلک؛ وأنّه هل اُرید منه المعنی الحقیقیّ، أم المجازیّ لو کان له المعنی المجازیّ؟ فالحقّ أنّ حدیث أصالة الحقیقة فی قبال المجاز؛ واستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، لا أصل لها؛ لما تحرّر فی محلّه: من أنّ جمیع الاستعمالات المجازیّة، تکون من استعمال اللفظ فی ما وضع له بحسب الإرادة الاستعمالیّة، وحدیث استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، باطل عاطل جدّاً، سواء فیه المجاز المرسل، والکنایات، والاستعارات، فلا شکّ فیه حتّیٰ یرجع إلی الأصل. هذا علیٰ مذهب الحقّ فی هذه المرحلة.
وأمّا علی القول المشهور فالحقّ: أنّ أصالة الحقیقة لا أصل لها؛ لأنّ الاستعمال المجازیّ أمر عقلائیّ، دائر فی جمیع مراحل الحیاة؛ حتّیٰ فی الاستعمالات القرآنیّة، بل وفی السنّة النبویّة، ولذلک قیل: «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقیقة، ولا یکون دلیلاً علیها».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 304
نعم، هنا وجه آخر: وهو أنّ المتکلّم الحکیم المرید من الکلام إیفاء المرام؛ وتحقیق الآمال فی الأنام، لابدّ له من ذکر القرینة عند إرادة المجاز، وحیث هی غیر موجودة، فیعلم منه إرادة المعنی الحقیقیّ؛ فراراً من نقض المرام، ومن التخلّف عن دیدن الناس والعقلاء فی المحاورات والمراسلات والمکالمات وغیرها.
وتوهّم وجود القرینة حین الإلقاء، ولم تصل إلینا؛ لکثرة الدوافع، یدفعه الأصل العقلائیّ.
وإلیه یرجع تمسّک القوم بأصالة عدم القرینة فی هذه المرحلة، وقد صرّح الشیخ برجوع أصالة عدم التخصیص والتقیید إلیه أیضاً عند الشکّ فی وجودهما، فالمستند أصل عدمیّ واحد؛ وهو أصالة عدم القرینة.
أقول: الحقّ أنّه علی المبنی المشهور یشکل الأمر؛ لأنّ أصالة عدم القرینة إن کان معناها أصل عدم الاستناد إلی القرینة، فهو لیس معنیً عقلائیّاً؛ لکثرة الاستناد إلی القرائن فی المجازات الکثیرة.
وإن اُرید منها: أنّه لو کان مستنداً إلیها لوصل، فیعلم منه عدم الاستناد؛ لأنّ ذلک یرجع إلیٰ أصالة عدم النقیصة بعد وصول أصل الکلام.
ففیه: أنّه یجوز الاستناد إلی القرینة المنفصلة؛ إمّا لجواز التأخیر عن وقت الحاجة، أو لعدم بلوغ الحاجة بالتأخیر، کما هو کذلک فی العامّ المتأخّر عنه المخصّص، والمطلق مثله أیضاً.
فعلیٰ هذا، ما هو الأمر العقلائیّ هو أنّ الاستعمال حقیقیّ، ولا مجاز، وإرادة المعنی الآخر من اللفظ، تحتاج إلی القرینة، وهی مفقودة، فیکون المراد الجدّی معناه الظاهر.
مثلاً: إذا ورد «أکرم زیداً الذی یکثر رماده» وشکّ فی أنّه اُرید منه معناه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 305
المطابقیّ، أو الکنائیّ، فإنّه لولا القرینة الحالیّة والمقالیّة، یحمل علی المطابقیّ، بعد کون الاستعمال علیٰ کلّ تقدیر حقیقیّاً؛ لأنّ ذلک هو بناء العقلاء، وأمّا إذا فرض أنّ الاستعمال یحتمل کونه مجازیّاً، فأصالة عدم القرینة لا تفید الحقیقة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الأمر لا یختلف بحسب حکم العقلاء؛ وفی مرحلة الاحتجاج والمخاصمة، ولا یعتنون باحتمال وجود القرینة غیر الواصلة ولو کان الاستعمال المجازیّ کثیراً، وموانع وصول القرائن أیضاً کثیرةً؛ وإلاّ للزم المنع عن تمامیّة الحجّة حتّیٰ علی المبنی الأوّل، کما لا یخفیٰ.
وبالجملة: التعبیر عن الأصل العقلائیّ المزبور «بأصالة عدم القرینة» غیر ظاهر؛ لأنّ المعنی الظاهر منه، هو استصحاب عدم وجود القرینة، أو أصالة عدم الحاجة إلیها.
ولذلک عدل عنه العلاّمة الخراسانیّ، وعبّر عنه بـ «أصالة الظهور» وهو أیضاً علیٰ مسلکه فی باب المجازات غیر کافٍ؛ لاحتیاج الکلام أوّلاً إلیٰ إثبات کونه من الاستعمال الحقیقیّ، ثمّ إلیٰ أنّ ما هو ظاهر الاستعمال مورد الجدّ المعبّر عنه بـ «أصالة الجدّ».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 306