تنقیح وتوضیح : فی بیان المراحل الثلاث التی یتوقف علیها الظهور التام للکلام
قد تبیّن: أنّ توصیف الکلام بالظهور التامّ، یتوقّف علیٰ طیّ مراحل ثلاث:
المرحلة الاُولیٰ : مرحلة الاطلاع علی المعانی الأفرادیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 306
المرحلة الثانیة : مرحلة فهم أنّ الاستعمال حقیقیّ أو مجازیّ. وفی هذه المرحلة مسلکان:
الأوّل: أنّ المجاز إن کان بمعنیٰ استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، فلابدّ من طیّ هذه المرحلة أیضاً.
الثانی: وإن کان المجاز والحقیقة، مشترکین فی أنّ الألفاظ علیٰ کلّ تقدیر مستعملة فی الموضوع له، کما هو المسلک المحرّر فی محلّه، فلا حاجة إلیٰ طیّها، وتصل النوبة بعد ذلک إلی المرحلة الثالثة.
وفیما ذکرنا تبیّن: أنّ إثبات کون اللفظ مستعملاً فی الموضوع له بأصالة الحقیقة، أو بأصالة عدم القرینة، أو بأصالة الظهور، غیر ممکن، وغیر سدید؛ ضرورة أنّ أصالة الحقیقة لیست عقلائیّة.
وأصالةَ عدم القرینة لا معنیٰ لها؛ لأنّ غایة ما یقال لتحریرها وتقریبها: هو أنّ المتکلّم لم یذکر القرینة، وهو غیر عقلائیّ.
وأصالةَ الظهور أجنبیّة عن هذه المرحلة، ومربوطة بالمرحلة الآتیة.
فلا أصل یستفاد منه أنّ الاستعمال حقیقیّ، إلاّ أنّ قضیّة کون المتکلّم فی مقام الإفادة، وأنّه حکیم غیر لاغٍ فی الکلام، وغیر ناقض للمرام، کون الإخلال بالقرینة مضرّاً بذلک، فمن عدم وصول القرینة یستکشف کون الاستعمال فیما وضع له.
وقد أشرنا إلیٰ وجه المناقشة فیه: بأنّه یمکن أن یکون الاتکال علی القرینة المنفصلة، وقد منع الموانع الطبیعیّة عن وصولها، کما منعت عن وصول طائفة من الأخبار والأحادیث إلینا، فلا یلزم نقض الغرض من ناحیة المولیٰ والمتکلّم، بل الغرض منقوض من ناحیة الاُمور الخارجیّة الخارجة عن الاختیار حسب الطبع والعادة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 307
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ ذکر القرینة المنفصلة علیٰ أنّ الاستعمال فی غیر ما وضع له، خلاف البناء العقلائیّ، وبذلک یحصل الفرق بین المخصّص والمقیّد، وبین القرینة علی المجاز والاستعمال فی غیر ما وضع له؛ ضرورة أنّ دأب المقنّنین علیٰ ذکر المخصّصات والمقیّدات، وهذا لا منع منه؛ لعدم کون العامّ مجازاً بهما، بخلاف ما هو المفروض فی الاستعمالات المجازیّة؛ واستعمال الألفاظ فی غیر ما وضعت له، فإنّه لابدّ من ذکر القرینة المتّصلة؛ لأنّ الاتکاء علی المنفصلة، خروج عن عادة المتکلّمین والعقلاء.
نعم، یمکن دعویٰ: أنّه یصحّ ذلک فیما إذا اقتضت الحاجة، وکان قد بلغ وقتها؛ وحان أمدها، وإلاّ فلا منع من استعمال الألفاظ فی غیر ما وضعت له فی رسالة أرسلها إلیٰ عبیده، وحیث لم یبلغ وقت الحاجة بوصولها إلیهم، کان بناؤه علیٰ إرسال القرائن منفصلة، فأرسلها، ولکنّ الموانع والسیل والریاح منعت من وصولها، فلا یلزم الإخلال بالغرض من ناحیة، ویجوز له التأخیر.
فبالجملة: استفادة أنّ الألفاظ الموجودة، مستعملة فیما وضعت لها ـ بعد اشتهار المجاز بالمعنی المشهور ـ غیر ممکن؛ لا بأصالة الحقیقة التی اتکل علیها المشهور، ولا بأصالة عدم القرینة التی اعتمد علیها الشیخ رحمه الله ولا بأصالة الظهور التی ذکرها المتأخّرون کـ «الکفایة» والعلاّمة الأراکیّ والنائینیّ رحمهم الله وغیرهم.
بل قد عرفت: أنّ قضیّة أصالة عدم القرینة، هی البناء علی الاستعمال فی الموضوع له إذا کان فی الکلام ما یصلح للقرینیّة، مع أنّه مشکل. وإجراء أصالة الحقیقة هنا مبنیّ علیٰ أنّها أصل تعبّدی، وهو باطل عاطل بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 308
وتحصّل لحدّ الآن: أنّه إن قلنا بأنّ الاستعمال فی کلّ مورد، یکون فیما وضع له فهو، وإلاّ فلا یمکن کشف کون الاستعمال فیما وضع له، وعندئذٍ لا یبقیٰ مورد لأصالة التطابق، والجدّ، وأصالة الظهور؛ لأنّها فرع کون الاستعمال حقیقیّاً وفیما وضع له، وفرع استکشاف الإرادة الاستعمالیّة، فإنّه إن استکشف الإرادة الاستعمالیّة، تصل النوبة إلیٰ تطبیق الحقیقة والجدّیة علیها، وإلاّ فلا؛ لإمکان کون الإرادة الاستعمالیّة مجازیّة، فاغتنم.
ومن هنا یظهر إشکال آخر علی الشیخ وأتباعه رحمهم الله فإنّ مسألة أصالة عدم التخصیص وعدم التقیید عند الشکّ، أجنبیّة عن هذه المرحلة، وداخلة فی المرحلة الآتیة؛ لأنّ الاستعمال هناک فیما وضع له، کما تحرّر فی محلّه.
إن قلت: هذه الشبهة والعویصة، کما تـتوجّه إلی المشهور القائلین: بأنّ المجاز استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، تـتوجّه إلی القائلین: بأنّ المجاز هو عدم کون المراد الاستعمالی، جدّیاً فی جمیع الاستعمالات؛ وأنّ اللفظ المستعمل فیما وضع له، مجاز وقنطرة إلی المرام الجدّی والمقصود الواقعیّ؛ إمّا بالادعاء، أو بانتقال المخاطب إلیه، والتفصیل فی محله، وذلک لأنّ من الممکن أن یتّکل المتکلّم علی القرینة المنفصلة بالنسبة إلیٰ هذا المسلک أیضاً.
قلت: بعد استکشاف الإرادة الاستعمالیّة، یکون الأصل العقلائیّ علیٰ تطابق الجدّ والاستعمال، فعلیٰ مسلکنا لا قصور فی المقتضی؛ وهو أنّ الألفاظ مستعملة فیما هو معناها. وأمّا احتمال کون المعنیٰ غیر مقصود بالذات، فهو مدفوع بالأصل المزبور الآتی تحقیقه فی المرحلة الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
وأمّا علیٰ مسلکهم، فلا یستکشف المراد الاستعمالیّ؛ وأنّه إرادة الاستعمال
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 309
المجازیّ وفی غیر ما وضع له، أم إرادة المعنی الموضوع له، فیکون من الشکّ فی المقتضی، وقد مرّ عدم وجود أصل یحرز به المقتضی، فلا تصل النوبة إلیٰ أصالة الجدّ والطباق، فافهم واغتنم.
المرحلة الثالثة : مرحلة البناء علیٰ أنّ ما هو المراد فی الإرادة الاستعمالیّة، هو المراد واقعاً وجدّاً.
وإن شئت قلت: بعد البناء علیٰ صفة الاستعمال؛ وهو استعمال اللفظ فی الموضوع له، وبعد کشف هذه الصفة فرضاً بإحدیٰ الاُصول الممکنة، فلابدّ من سدّ الاحتمال الآخر، وهو ثالث الاحتمالات: وهو أنّه استعمل اللفظ فی الموضوع له، ولکن لیس المقصود هذا المعنیٰ، بل المتکلّم بصدد الأمر الآخر، فیکون الأمر مثلاً للتعجیز والتمرین والامتحان، فلا تجب الإطاعة مثلاً، أو یکون الأمر تقیّة، أو هنا مصحلة فی نفس الإلقاء والاستعمال، وینسدّ هذا الاحتمال بأصالة الجدّ والتطابق بین المرادین، المعبّر عنها، بـ «أصالة الظهور» وهو الأصل العقلائیّ.
وهذا الأصل کما یجری بعد کشف حال الاستعمال الحقیقیّ، نحتاج إلیه فیما إذا اُقیمت القرینة علی المجاز، فإذا ورد «جئنی بأسد یرمی» فإنّه لو فرضنا أنّ اللفظ مستعمل فی غیر ما هو الموضوع له، فلابدّ من الالتزام بالإطاعة؛ نظراً إلی الأصل المزبور، فهذه المرحلة ممّا لابدّ منها علیٰ کلّ تقدیر، ففی صورة الشکّ فی وجود القرینة یجری هذا الأصل. وقد مرّ وجه المناقشة؛ وأنّ الإشکال الذی وجّهناه علیٰ مقالة المشهور، یأتی هنا بجوابه.
وغیر خفیّ: أنّه لا حاجة إلیٰ إحراز عدم القرینة، بل یکفی الشکّ فی وجود القرینة، فما تمسّک به الشیخ رحمه الله وأتباعه: من أصالة عدم القرینة، فی غیر محلّه فی هذه المرحلة أیضاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 310