الشبهة الرابعة : فی منع الأخباریـین لحجیة ظواهر الکتاب
حکی عن جمع من الأخباریّـین منع حجّیة ظواهر الکتاب خاصّة. وقد مرّ أنّ نفی حجّیة الظواهر، یرجع إلیٰ إنکار تمامیّة المبادئ الدخیلة فی إنعقاد الظهور.
فما قد یریٰ: من أنّ الوجوه المتمسّک بها، بین ما یرجع إلیٰ إنکار الظهور ذاتاً، أو عرضاً، أو إلیٰ إنکار الحجّیة؛ بتخیّل أنّ مثل العلم الإجمالیّ بالتحریف وأمثاله من الأوّل، والأخبار الناهیة من الثانی، غیر سدید جّداً؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالیّ یمنع من جریان أصالة الجدّ، ولا یخلّ بالاستعمال شیئاً.
وهکذا النهی عن الرجوع إلی الکتاب، یضرّ بالأصل المزبور، وإلاّ فمع جریانه لا سبیل لمنع الحجّیة، إلاّ إذا کانت الحجّیة محتاجة إلی الإمضاء، ولم یحصل الإمضاء؛ لعدم إنکشاف ردع الشرع عنها، وأمّا لو انکشف الردع عن الظواهر الخاصّة ـ کظواهر الکتاب ـ فیکون ذلک کالقرینة اللفظیّة علیٰ عدم تطابق الجدّ والاستعمال؛ فیما یتفاهم منه بدواً، ولغة وترکیباً.
فبالجملة: ذهب جمع من الإمامیّة إلیٰ هذه المقالة، وقد تعرّض لها أساطین الفنّ، وذکروا الوجوه المستدلّ بها بأجوبتها بما لا مزید علیها، إلاّ أنّا نشیر إلیها؛ رعایة للأدب، وإفادة لتلخیص البحث:
فنقول: قضیّة العلوم الإجمالیّة الثلاثة ـ العلم الإجمالیّ بالتحریف، والعلم الإجمالیّ بوجود المتشابه، والعلم الإجمالیّ بوجود المخصّصات والمقیّدات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 321
والقرائن المنفصلة ـ عدم جریان الأصل العقلائیّ اللازم لتشخیص الظاهر، سواء قلنا: بأنّ العلم الإجمالیّ حجّة ومنجّز، أم لم نقل. فلا یقاس المقام بمسألة المنع عن جریان الاُصول العملیّة فی أطراف العلم الإجمالیّ، کما فی کلام العلاّمة النائینیّ وبعض آخر؛ ضرورة أنّ وجود القرائن الکثیرة والتحریف والتشابه، یضرّ بأصالة الجدّ والتطابق، ولا أقلّ من الشّک فی بناء العقلاء الکافی لعدم تمامیّة الظهور الحجّة.
ومقتضی الطائفتین من الأخبار ـ الطائفة الناظرة إلیٰ اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به، الرادعة لمثل أبی حنیفة وقتادة عن الإفتاء به، وإلیٰ أنّ القرآن فیه ما لا یصل إلیٰ أوکاره أفکار الأوحدیّـین، فضلاً عن الخواصّ أو العوامّ، والطائفة الناظرة إلی المنع عن تفسیر القرآن، البالغة علیٰ ما قیل فی «الوسائل» إلیٰ مائتین وخمسین روایة، وبالجملة: مقتضیٰ هاتین الطائفتین ـ المنع عن الرجوع إلی الکتاب واتباع ظواهره، فلابدّ من الجابر لها، وهی الأحادیث الصادرة عن أهل بیت العصمة والطهارة، علیهم أفضل الصلوات والتحیّات، ولولا ذلک لکانت الاُمّة الإمامیّة ملتحقة بطائفة تقول: «حسبنا کتاب الله » کما لا یخفیٰ.
وأمّا المناقشة فی العلم الإجمالیّ الأوّل: بأنّا لا نصدّق التحریف أوّلاً، وعلیٰ تقدیره فلا نصدّقه فی آیات الأحکام.
فتندفع: بورود الأخبار الکثیرة البالغة حدّ التواتر، مع ذهاب جمع من الإمامیّة إلیها، وفیها: «إنّ الکتاب المنزّل هو القرآن الذی جمعه الأمیر علیه السلام المشتمل علیٰ جمیع ما اُنزل بترتیب ما نزل».
فیلزم الإخلال بالظهور تارة: من باب التحریف بالنقیصة، واُخریٰ: من باب التحریف بالتقدیم والتأخیر، الموجب لاختلاف الظهور قطعاً، ولا وجه لما اشتهر:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 322
«من أنّ التحریف لو کان، فهو فی غیر آیات الأحکام».
نعم إنکار أصل التحریف ممکن، ولکنّه ممنوع لوجود تلک الأخبار.
إلاّ أنّها معارضة بما یدلّ علیٰ أنّ الأئمّة علیهم السلام بصدد إرجاع الاُمّة إلی الکتاب فی موارد کثیرة، کما فی مسألة عرض الأخبار علیه، وتحریم الشرط المخالف للکتاب، والإیماء إلیٰ أنّ الإمساس بالمرارة یفهم من کتاب الله ، والمسحَ ببعض الرأس یفهم؛ لمکان «الباء» فإنّ هذه الاُمور فی عصر الصادقین علیهماالسلام وتکون منصرفة إلی الکتاب الموجد بین أیدی المؤمنین.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ بیان أحکام الله لازم علیهم، وأمّا تعیین الصغریٰ؛ وأنّ ما بین أیدینا هو الکتاب النازل، ولا زائد، ولا ناقص، فهو أمر آخر تنفیه أخبار التحریف، فما فی کتب أصحابنا الاُصولیّـین: من التمسّک بهذه الطوائف وبهذه الموارد طرّاً وکلاًّ، غیر موافق للصواب.
فبالجملة: ینحصر إبطال مقالة الأخباریـین بإبطال التحریف، وأمّا لو تنزّلنا عنه فلا وجه لاختصاص التحریف بغیر آیات الأحکام؛ لأنّ دلیل التحریف أعمّ، وأنّ الاختصاص المذکور مجرّد تخیّل بلا وجه.
کما لا وجه لتخیّل المعارضة بین ما یدلّ علی التحریف، وما یدلّ علی الإرجاع إلیٰ کتاب الله ؛ لعدم التعارض بینهما؛ ضرورة أنّ الأخبار الاُولیٰ شارحة للثانیة، وأنّ الأخبار الثانیة متعرّضة للحکم الواقعیّ؛ وهو عرض الأخبار علی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 323
الکتاب مثلاً، وأمّاً أنّ الکتاب ماذا؛ وأنّه هو الذی بین أیدینا، أم هو الموجود عندهم علیٰ زعم الأخباریّـین؟ فتلک الأخبار ساکتة عنه.
نعم، ربّما هی منصرفة إلیٰ أنّ ما هو الحاضر هو الکتاب، ولکنّه انصراف یمنع بتلک الأخبار الشارحة.
ومن هنا یظهر ضعف التمسّک بالأخبار الدالّة علیٰ قراءة السورة التامّة فی الفرائض، والأخبار الناطقة بالتبعیض إلیٰ خمس فی صلاة الآیات.
بل یمکن أن یقال: إنّ هذه الأخبار تکون ـ مضافاً إلیٰ بیان حکم الله الواقعیّ، من غیر النظر إلیٰ ما هو الکتاب صغریٰ ومصداقاً ـ مشتملةً علیٰ جهة التقیّة من العامّة المنکرین للتحریف، کما لا یخفیٰ.
ومن هنا أیضاً یظهر وجه المناقشة فی الأخبار الآمرة بقراءة السور المعیّنة فی الصلوات المندوبة؛ فإنّ الأمر بقراءة سورة الجمعة فی صلاة الجمعة، لا یدلّ علیٰ أنّ ما هو سورة الجمعة هی التی بین أیدینا، فتأمّل جیّداً.
وغیر خفیّ: أنّ هذه الطوائف من الأخبار کثیرة جدّاً، فینحصر إبطال طریقتهم فی باب التحریف فی إنکارها رأساً. ومن المشکل إقناع الأخباریّـین؛ لأنهم یرون حجّیة الأخبار الدالّة علی التحریف، من غیر أن یلاحظوا جانب السند والصدور، ومن غیر أن یعتنوا بالإعراض والإجماع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 324