بقی شیء : حول شمول الآیات الناهیة عن الظن لحجّیة الظواهر
وهو أنّ مقتضیٰ الآیات الرادعة عن العمل بالظنّ، عدم حجّیة الظواهر؛ لأنّها لا تخرج عنها، لکونها من الظنّ ولو کان خاصّاً. والأصحاب وإن تعرّضوا لتلک الآیات فی مسألة حجّیة خبر الثقة، إلاّ أنّ الإشارة إلیها هنا أیضاً لازمة؛ حتّیٰ تنسدّ جمیع أبواب شبهات حجّیة الظواهر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 334
فبالجملة: لأحد دعویٰ أنّها مردوعة.
ولو قیل: لا یعقل الردع بها؛ لکونها من الظواهر أیضاً.
قلنا: إنّ بناء العقلاء مردوع بها، وحیث یلزم من شمولها لأنفسها عدم حجّیة نفسها، ویلزم من عدم حجّیة نفسها حجّیةُ سائر الظواهر؛ لعدم الردع عنها إلاّ بها، فلابدّ ـ فراراً من اللغویّة ـ من الالتزام بانصرافها عن أنفسها، فیکون ظاهرها بحکم العقلاء حجّة، ویصلح لنفی حجّیة غیرها شرعاً.
وبعبارة اُخریٰ: مقتضیٰ بناء العقلاء حجّیة جمیع الظواهر، ومقتضیٰ هذه الآیات عدم حجّیتها شرعاً. ولأجل الإشکال المزبور لا تشمل الآیات أنفسها؛ للعلم بعدم مجیئها لعدم اعتبار أنفسها، فتکون هی حجّة حسب البناء المزبور، فیلزم منه نفی الحجّیة عن غیرها شرعاً.
لا یقال: حجّیة هذه الآیات عند العقلاء غیر کافیة؛ لاحتیاجها إلی الإمضاء، ولا طریق إلیٰ کشف الارتضاء؛ ضرورة أنّ التمسّک بها ما کان بمرأیٰ ومسمع من الشرع، ولا کثیر الدور بین العقلاء، حتّیٰ یستنبط رضا الشرع فی موردها.
لأنّا نقول: یستنبط ارتضاء الشرع من نفس هذه الآیات التی لا غرض لها إلاّ نفی حجّیة الظنّ، فلابدّ أن یعلم رضا الشرع بحجّیة هذه الآیات؛ قضاءً لحقّ سقوطها عن الأثر المرغوب منها، والمترقّب عنها، کما لا یخفیٰ.
فبالجملة: ما یکون من الظواهر مفید الوثوق والاطمئنان المعدّ عرفاً من العلم، فهو حجّة، وتکون الحجّیة ـ بوجه ـ لغیره، وأمّا فی غیر هذه الصورة فلا حجّیة؛ لأنّ الشرع ردع عنها بتلک الآیات الرادعة عن اتباع الظنّ.
وإن شئت قلت: الظواهر المورثة للعلم العرفیّ والوثوق حجّة، ومنها الآیات الناهیة، وبناء العقلاء ولو کان علی الأعمّ، إلاّ أنّه مردوع بتلک الآیات، فلا یثبت بناءً علیٰ هذا عموم المدّعیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 335
وبالجملة تحصّل: أنّ أصل دعویٰ حجّیة الظواهرأوعموم الدعویٰ، ممنوع بها.
فإن قلنا: بأنّ منع أصل الدعویٰ واضح الفساد، للزوم الهرج والاختلال فی النظام، وغیر ذلک ممّا لا یخفیٰ علیٰ أحد، کما مرّ، فلا وجه للقول بعدم منع عموم المدّعیٰ بها، بعد کون الآیات الناهیة مورثة للعلم، فلا تشملها الآیات الرادعة؛ لأنّ موضوعها عدم العلم والظنّ، فلا نحتاج حینئذٍ إلیٰ دعویٰ انصرافها عن أنفسها، فحینئذٍ بمضمون تلک الآیات، تمنع حجّیة الظواهر فی صورة عدم إفادة الوثوق ولو کانت مفیدة الظنّ، فضلاً عمّا إذا کان الظنّ علیٰ خلافها، فتأمّل.
وممّا ذکرنا فی تحریر المشکلة علیٰ حجّیة الظواهر، یندفع تخیّل الدور اللازم من التمسّک بالآیات الناهیة، بدعویٰ أنّ مردوعیّة البناءات العقلائیّة، موقوفة علیٰ رادعیّة الآیات، وهی علیٰ عدم مردوعیّة بنائهم علیٰ حجّیة الظواهر.
وقد عرفت: أنّ بناء العقلاء علیٰ حجّیة مطلق الظواهر ـ ومنها الآیات والآیات ـ مردوع بها، ولکنّها لا تکون موقوفة إلاّ علیٰ کشف رضا الشرع بالحجّیة، وهو حاصل بما عرفت.
والذی هو التحقیق جواباً یخصّ بالشبهة فی أصل حجّیة الظواهر علی الإطلاق: أنّ منع البناءات العقلائیّة علیٰ تلک الظواهر، یمکن لو لم تکن السیرة العملیّة متّصلة بها علیٰ خلافها. مع أنّ الردع عن الظواهر علی الإطلاق یستلزم المفاسد والاختلالات النظامیّة والمعاشیّة، کما عرفت مراراً، فحجّیة الظواهر فی الجملة وفی صورة إفادة الوثوق والمعرفة والاطمئنان، قطعیّة.
نعم، لو کان شکّ فهو فی إطلاق تلک الدعویٰ؛ وأنّ التمسّک بالآیات لردع الإطلاق ممکن بدواً، وقد تصدّی القوم فی أمثال المقام لحلّ المشکلة بوجوه مختلفة:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 336
أحدها: ما علیه أکثر المحققین؛ وهو حدیث حکومة أدلّة حجّیة الأمارات علیٰ الآیات الناهیة.
وقد مرّ منّا مراراً: أنّ دلیل حجّیة الأمارات، لا یزید علیٰ عدم الردع بالسکوت. ولو کان هذا الجواب صحیحاً فی باب حجّیة الخبر الواحد، فلا یصحّ فی المقام؛ لعدم دلیل علیٰ حجّیة الظواهر. ولا یظهر منهم التمسّک بالأدلّة اللفظیّة لها، فعلیه لا معنیٰ للحکومة؛ فإنّها متقوّمة باللسان المفقود فرضاً فی المقام.
ویمکن أن یقال: بأنّه لو لم یتمّ دلیل علیٰ تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع، اللازم منه الحکومة، أو علیٰ تنزیل الطریق منزلة العلم فی باب حجّیة خبر الواحد، لتمّ ذلک فی المقام؛ لقوله علیه السلام: «هذا وأشباهه یعرف من کتاب الله » فان إطلاق المعرفة علیٰ اتباع الظواهر، یشهد علیٰ حکومة دلیل الظواهر علیٰ الآیات الناهیة عن غیر العلم والظنّ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الحدیث لیس بصدد دعویٰ: أنّ الظواهر علم ومعرفة، وغایة ما یستفاد منه أنّه یکون الاتباع للظواهر معرفة، وربّما کان ذلک فی صورة حصول الوثوق والاطمئنان.
فتوهّم: أنّ قوله علیه السلام: «هذا وأشباهه یعرف من کتاب الله » هو العرفان النوعیّ، لا الشخصیّ، والعرفان النوعیّ أعمّ من حصول الوثوق وعدمه، غیر جیّد، فتدبّر.
ثانیها: ما علیه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وهو حدیث ورود دلیل الأمارات علی الآیات؛ وذلک لأنّ قضیّة ما تحرّر منّا فی محلّه: أنّ المراد من «الْعِلْم» فی الأخبار والآیات فی هذه المواقف، هی الحجّة، وإذا ثبتت حجّیة الظواهر بعدم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 337
الردع، تکون الأمارات حجّة، ویکون دلیلها وارداً علیٰ الآیات طبعاً.
ولو قیل: بأنّ الورود المزبور یتمّ بالنسبة إلیٰ قوله تعالیٰ: «وَلاٰ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عَلْمٌ» دون قوله تعالیٰ: «إنّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئَاً».
قلنا: نعم، إلاّ أنّ إطلاق الآیة الثانیة، یقیّد بما یدلّ علیٰ حجّیة الظواهر، فالمعارضة بین دلیل حجّیة الظواهر والآیة، ترتفع بالتقیّد، فالظنون الاُخر مورد الآیة دونها، کما لا یخفیٰ.
ویمکن المناقشة صناعةً فیه: بأنّه لیس من الورود؛ لعدم أثرٍ من الدلیل الوارد، وعدم الردع لیس شیئاً حتّیٰ یعدّ وارداً علیٰ الآیات، فغایة ما یعبّر عنه فی المقام هو «التخصّص عند العقلاء» والشرع أمضیٰ هذا التخصّص، والأمر سهل.
ثالثها: أنّ إطلاق الآیات الناهیة ممنوع طرّاً، فلا نحتاج إلیٰ دلیل الحاکم أو الوارد؛ وذلک لأنّ الانصراف عن البناءات العقلائیّة، وعدم صلاحیة الآیات لردعها ولو فیالجملة قطعیّ؛ لأنّ الشرع المریدَ ردعَ البناءات العرفیّة، لابدّ وأن یتشبّث بالخشونة والتأکید فی قبال المغروسات العرفیّة والعقلائیّة، ففی غیر هذه الصورة یحصل الانصراف القطعیّ لتلک الآیات عنها، وهذا هوالمعنی الذی یتبیّن بمراجعة ما فهمه القوم والمفسّرون من الآیات، وقد تحرّر فی المطلق والمقیّد: أنّ وجود الانصراف، یضرّ بانعقاد الإطلاق، ویوجب تضیّق الدلیل ذاتاً عن الشمول، فلا تخلط.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 338