المقصد الثامن فی الظنّ

بقی شیء : حول شمول الآیات الناهیة عن الظن لحجّیة الظواهر

بقی شیء : حول شمول الآیات الناهیة عن الظن لحجّیة الظواهر

‏ ‏

‏وهو أنّ مقتضیٰ الآیات الرادعة عن العمل بالظنّ، عدم حجّیة الظواهر؛ لأنّها‏‎ ‎‏لا تخرج عنها، لکونها من الظنّ ولو کان خاصّاً. والأصحاب وإن تعرّضوا لتلک‏‎ ‎‏الآیات فی مسألة حجّیة خبر الثقة، إلاّ أنّ الإشارة إلیها هنا أیضاً لازمة؛ حتّیٰ تنسدّ‏‎ ‎‏جمیع أبواب شبهات حجّیة الظواهر.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 334
فبالجملة:‏ لأحد دعویٰ أنّها مردوعة.‏

ولو قیل:‏ لا یعقل الردع بها؛ لکونها من الظواهر أیضاً.‏

قلنا:‏ إنّ بناء العقلاء مردوع بها، وحیث یلزم من شمولها لأنفسها عدم حجّیة‏‎ ‎‏نفسها، ویلزم من عدم حجّیة نفسها حجّیةُ سائر الظواهر؛ لعدم الردع عنها إلاّ بها،‏‎ ‎‏فلابدّ ـ فراراً من اللغویّة ـ من الالتزام بانصرافها عن أنفسها، فیکون ظاهرها بحکم‏‎ ‎‏العقلاء حجّة، ویصلح لنفی حجّیة غیرها شرعاً.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ مقتضیٰ بناء العقلاء حجّیة جمیع الظواهر، ومقتضیٰ هذه‏‎ ‎‏الآیات عدم حجّیتها شرعاً. ولأجل الإشکال المزبور لا تشمل الآیات أنفسها؛‏‎ ‎‏للعلم بعدم مجیئها لعدم اعتبار أنفسها، فتکون هی حجّة حسب البناء المزبور، فیلزم‏‎ ‎‏منه نفی الحجّیة عن غیرها شرعاً.‏

لا یقال:‏ حجّیة هذه الآیات عند العقلاء غیر کافیة؛ لاحتیاجها إلی الإمضاء،‏‎ ‎‏ولا طریق إلیٰ کشف الارتضاء؛ ضرورة أنّ التمسّک بها ما کان بمرأیٰ ومسمع من‏‎ ‎‏الشرع، ولا کثیر الدور بین العقلاء، حتّیٰ یستنبط رضا الشرع فی موردها.‏

لأنّا نقول:‏ یستنبط ارتضاء الشرع من نفس هذه الآیات التی لا غرض لها إلاّ‏‎ ‎‏نفی حجّیة الظنّ، فلابدّ أن یعلم رضا الشرع بحجّیة هذه الآیات؛ قضاءً لحقّ سقوطها‏‎ ‎‏عن الأثر المرغوب منها، والمترقّب عنها، کما لا یخفیٰ.‏

فبالجملة:‏ ما یکون من الظواهر مفید الوثوق والاطمئنان المعدّ عرفاً من‏‎ ‎‏العلم، فهو حجّة، وتکون الحجّیة ـ بوجه ـ لغیره، وأمّا فی غیر هذه الصورة فلا‏‎ ‎‏حجّیة؛ لأنّ الشرع ردع عنها بتلک الآیات الرادعة عن اتباع الظنّ.‏

وإن شئت قلت:‏ الظواهر المورثة للعلم العرفیّ والوثوق حجّة، ومنها الآیات‏‎ ‎‏الناهیة، وبناء العقلاء ولو کان علی الأعمّ، إلاّ أنّه مردوع بتلک الآیات، فلا یثبت بناءً‏‎ ‎‏علیٰ هذا عموم المدّعیٰ.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 335
وبالجملة تحصّل:‏ أنّ أصل دعویٰ حجّیة الظواهرأوعموم الدعویٰ، ممنوع بها.‏

فإن قلنا:‏ بأنّ منع أصل الدعویٰ واضح الفساد، للزوم الهرج والاختلال فی‏‎ ‎‏النظام، وغیر ذلک ممّا لا یخفیٰ علیٰ أحد، کما مرّ‏‎[1]‎‏، فلا وجه للقول بعدم منع عموم‏‎ ‎‏المدّعیٰ بها، بعد کون الآیات الناهیة مورثة للعلم، فلا تشملها الآیات الرادعة؛ لأنّ‏‎ ‎‏موضوعها عدم العلم والظنّ، فلا نحتاج حینئذٍ إلیٰ دعویٰ انصرافها عن أنفسها،‏‎ ‎‏فحینئذٍ بمضمون تلک الآیات، تمنع حجّیة الظواهر فی صورة عدم إفادة الوثوق ولو‏‎ ‎‏کانت مفیدة الظنّ، فضلاً عمّا إذا کان الظنّ علیٰ خلافها، فتأمّل.‏

‏وممّا ذکرنا فی تحریر المشکلة علیٰ حجّیة الظواهر، یندفع تخیّل الدور‏‎ ‎‏اللازم من التمسّک بالآیات الناهیة، بدعویٰ أنّ مردوعیّة البناءات العقلائیّة، موقوفة‏‎ ‎‏علیٰ رادعیّة الآیات، وهی علیٰ عدم مردوعیّة بنائهم علیٰ حجّیة الظواهر.‏

وقد عرفت:‏ أنّ بناء العقلاء علیٰ حجّیة مطلق الظواهر ـ ومنها الآیات‏‎ ‎‏والآیات ـ مردوع بها، ولکنّها لا تکون موقوفة إلاّ علیٰ کشف رضا الشرع بالحجّیة،‏‎ ‎‏وهو حاصل بما عرفت.‏

‏والذی هو التحقیق جواباً یخصّ بالشبهة فی أصل حجّیة الظواهر علی‏‎ ‎‏الإطلاق: أنّ منع البناءات العقلائیّة علیٰ تلک الظواهر، یمکن لو لم تکن السیرة‏‎ ‎‏العملیّة متّصلة بها علیٰ خلافها. مع أنّ الردع عن الظواهر علی الإطلاق یستلزم‏‎ ‎‏المفاسد والاختلالات النظامیّة والمعاشیّة، کما عرفت مراراً، فحجّیة الظواهر فی‏‎ ‎‏الجملة وفی صورة إفادة الوثوق والمعرفة والاطمئنان، قطعیّة.‏

‏نعم، لو کان شکّ فهو فی إطلاق تلک الدعویٰ؛ وأنّ التمسّک بالآیات لردع‏‎ ‎‏الإطلاق ممکن بدواً، وقد تصدّی القوم فی أمثال المقام لحلّ المشکلة بوجوه‏‎ ‎‏مختلفة:‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 336
أحدها:‏ ما علیه أکثر المحققین؛ وهو حدیث حکومة أدلّة حجّیة الأمارات‏‎ ‎‏علیٰ الآیات الناهیة.‏

‏وقد مرّ منّا مراراً: أنّ دلیل حجّیة الأمارات، لا یزید علیٰ عدم الردع‏‎ ‎‏بالسکوت‏‎[2]‎‏. ولو کان هذا الجواب صحیحاً فی باب حجّیة الخبر الواحد، فلا یصحّ‏‎ ‎‏فی المقام؛ لعدم دلیل علیٰ حجّیة الظواهر. ولا یظهر منهم التمسّک بالأدلّة اللفظیّة‏‎ ‎‏لها، فعلیه لا معنیٰ للحکومة؛ فإنّها متقوّمة باللسان المفقود فرضاً فی المقام.‏

‏ویمکن أن یقال: بأنّه لو لم یتمّ دلیل علیٰ تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع، اللازم‏‎ ‎‏منه الحکومة، أو علیٰ تنزیل الطریق منزلة العلم فی باب حجّیة خبر الواحد، لتمّ‏‎ ‎‏ذلک فی المقام؛ لقوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏«هذا وأشباهه یعرف من کتاب الله »‎[3]‎‏ فان إطلاق‏‎ ‎‏المعرفة علیٰ اتباع الظواهر، یشهد علیٰ حکومة دلیل الظواهر علیٰ الآیات الناهیة‏‎ ‎‏عن غیر العلم والظنّ.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الحدیث لیس بصدد دعویٰ: أنّ الظواهر علم ومعرفة،‏‎ ‎‏وغایة ما یستفاد منه أنّه یکون الاتباع للظواهر معرفة، وربّما کان ذلک فی صورة‏‎ ‎‏حصول الوثوق والاطمئنان.‏

فتوهّم:‏ أنّ قوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏«هذا وأشباهه یعرف من کتاب الله »‏ هو العرفان النوعیّ،‏‎ ‎‏لا الشخصیّ، والعرفان النوعیّ أعمّ من حصول الوثوق وعدمه، غیر جیّد، فتدبّر.‏

ثانیها:‏ ما علیه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وهو حدیث ورود دلیل الأمارات‏‎ ‎‏علی الآیات‏‎[4]‎‏؛ وذلک لأنّ قضیّة ما تحرّر منّا فی محلّه: أنّ المراد من ‏‏«‏الْعِلْم‏»‏‏ فی‏‎ ‎‏الأخبار والآیات فی هذه المواقف، هی الحجّة، وإذا ثبتت حجّیة الظواهر بعدم‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 337
‏الردع، تکون الأمارات حجّة، ویکون دلیلها وارداً علیٰ الآیات طبعاً‏‎[5]‎‏.‏

ولو قیل:‏ بأنّ الورود المزبور یتمّ بالنسبة إلیٰ قوله تعالیٰ: ‏‏«‏وَلاٰ تَقْفُ مَا لَیْسَ‎ ‎لَکَ بِهِ عَلْمٌ‏»‏‎[6]‎‏ دون قوله تعالیٰ: ‏‏«‏إنّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئَاً‏»‏‎[7]‎‏.‏

قلنا:‏ نعم، إلاّ أنّ إطلاق الآیة الثانیة، یقیّد بما یدلّ علیٰ حجّیة الظواهر،‏‎ ‎‏فالمعارضة بین دلیل حجّیة الظواهر والآیة، ترتفع بالتقیّد، فالظنون الاُخر مورد الآیة‏‎ ‎‏دونها، کما لا یخفیٰ.‏

ویمکن‏ المناقشة صناعةً فیه: بأنّه لیس من الورود؛ لعدم أثرٍ من الدلیل‏‎ ‎‏الوارد، وعدم الردع لیس شیئاً حتّیٰ یعدّ وارداً علیٰ الآیات، فغایة ما یعبّر عنه فی‏‎ ‎‏المقام هو «التخصّص عند العقلاء» والشرع أمضیٰ هذا التخصّص، والأمر سهل.‏

ثالثها:‏ أنّ إطلاق الآیات الناهیة ممنوع طرّاً، فلا نحتاج إلیٰ دلیل الحاکم أو‏‎ ‎‏الوارد؛ وذلک لأنّ الانصراف عن البناءات العقلائیّة، وعدم صلاحیة الآیات لردعها ولو‏‎ ‎‏فیالجملة قطعیّ؛ لأنّ الشرع المریدَ ردعَ البناءات العرفیّة، لابدّ وأن یتشبّث بالخشونة‏‎ ‎‏والتأکید فی قبال المغروسات العرفیّة والعقلائیّة، ففی غیر هذه الصورة یحصل‏‎ ‎‏الانصراف القطعیّ لتلک الآیات عنها، وهذا هوالمعنی الذی یتبیّن بمراجعة ما فهمه‏‎ ‎‏القوم والمفسّرون من الآیات، وقد تحرّر فی المطلق والمقیّد: أنّ وجود الانصراف،‏‎ ‎‏یضرّ بانعقاد الإطلاق، ویوجب تضیّق الدلیل ذاتاً عن الشمول‏‎[8]‎‏، فلا تخلط.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 338

  • )) تقدّم فی الصفحة 261 ـ 263 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 311 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 363 ، وسائل الشیعة 1 : 464 ، کتاب الطهارة ، أبواب الوضوء، الباب39 ، الحدیث 5 .
  • )) تهذیب الاُصول 2 : 105 و 106 .
  • )) یأتی فی الجزء السابع : 337 .
  • )) الإسراء (7) : 36.
  • )) یونس (10) : 36.
  • )) لاحظ ما تقدّم فی الجزء الخامس : 432 ـ 434 .