المسألة الاُولیٰ فی جبر الشهرة العملیّة للسند
الشهرة العملیّة هل توجب انجبار ضعف السند؛ سواء کان الخبر مسنداً وضعیفاً، أو مرسلاً، أم لا؟
الأقویٰ نعم؛ فإنّ العارف بدیدن القدماء، والعالم الفاحص عن تأریخ بناءاتهم، وعن سیرتهم فی الأخبار والأحکام، یحصل له بعد ذهاب الشهرة ـ التی فیها أمثال الصدوق، والمفید، والمرتضیٰ، والشیخ رحمهم الله ـ الوثوق الشخصیّ، بل العقلاء یطمئنّون بها کسائر الحجج العقلائیّة النوعیّة. ومجرّد إمکان اتکالهم علی القرائن الخاصّة التی لو وصلت إلینا لما أفادت شیئاً، غیر کافٍ، ولو کان کافیاً لکان الإجماع الکاشف عن السنّة مثلها بالضرورة.
ودعویٰ إحتمال0کون مستندهم خبراً آخر غیر ما هو المستند إلیه ظاهراً، کالدعوی السابقة فی نظر المراجعین.
نعم، ربّما یشکل فیما إذا کان الخبر بحسب الدلالة، مختلفاً مع ما هم علیه من الفتویٰ، فلو کان یصحّ دعویٰ وجود القرائن علیٰ صحّة السند؛ بحیث لو کانت تصل إلینا لهی أیضاً قائمة علیٰ صحّته عندنا، لکانت تصحّ دعوی القرائن علی الدلالة، فیلزم منه جابریّة الشهرة للسند والدلالة، وهذا ممّا لا یمکن الالتزام به، فإذا لم تکن جابریّة الدلالة مرضیّة، فجابریّة السند مثلها.
وبعبارة اُخریٰ: تلک القرائن لا تخرج عن إحدی الدلالات، فلو صحّ الاتکال علیٰ فهمهم من تلک الدلالات لتصحیح السند، لجاز الاتکال علیٰ فهمهم فی ناحیة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 390
الدلالة لمتن الخبر الموجود، فتکون الشهرة العملیّة فی الحقیقة، راجعةً إلی الشهرة الفتوائیّة؛ لعدم جواز التخلّف عن متن الخبر ولو کانت علیٰ خلاف الظاهر فتواهم.
وبالجملة: مقتضیٰ جابریّة الشهرة العملیّة للسند، جابریّتها للدلالة، ولجهة الصدور، فیکون الخبر المستند إلیه وجوده کالعدم. إلاّ فیما إذا کان فهم المشهور مطابقاً عندنا لظهوره، فإنّ عند ذلک یصحّ الاعتماد علیه فیما یزید علیٰ فتواهم، فیصحّ الإفتاء علیٰ طبق إطلاقه وعمومه فی الفروع المستحدثة؛ بشرط عدم إحراز إعراضهم عن الإطلاق والعموم، کما یأتی فی البحث الآتی والمسألة الثانیة إن شاء الله تعالیٰ.
أقول أوّلاً: إنّه إمّا مجرّد فرض، أو قلیل اتفاقه، ولا یجوز إنکار حجّیة الشهرة لأجل الفرض المزبور.
وثانیاً: لا بأس بالالتزام بوجود القرائن المنفصلة الواصلة إلیهم، وغیر الواصلة إلینا، فتکون الدلالة الظاهرة التی هی علیٰ خلاف فهم المشهور، غیرَ حجّة. وهذا نظیر الأمر بالتسبیح صباحاً ومساءً فی الکتاب والسنّة مراراً وتکراراً، مع نصوصیة الأخبار فی أنّه فرض، وفی وجوب قضائه، ومع ذلک ذهب الأصحاب إلیٰ خلافه، ولیس ذلک إلاّ لتلک القرائن.
وثالثاً: ربّما یکون الإجماع قائماً علی الفتوی العملیّة، مستندین إلی السنّة الظاهرة فی خلاف ما أفتوا به مثلاً، ولا یمکن الالتزام بعدم حجّیته.
وتوهّم: أنّ الإجماع المذکور یکون مدرکیّاً، فلا یکون حجّة، تـتمّ بالنسبة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 391
إلی الدلالة، لا السند، فتدبّر.
والذی هو الحقّ: أنّ الروایة المستند إلیها، إن کانت ظاهرة علیٰ خلاف الشهرة العملیّة، فیعلم من وجود الشهرة قیام القرائن الظاهرة، وإلاّ لما کان وجه لفهم الجلّ ما هو خلاف الظاهر بعد بنائهم علی الاجتهاد، وعدم اعتماد المتأخّر علی المتقدّم فی الرأی والإفتاء، ولذلک اختلفت فتاوی الأساتذة والتلامیذ کثیراً.
وأمّا لو کانت غیر ظاهرة، بل کانت قابلة لفهم جلّ منها شیئاً، والآخرین منها شیئاً آخر، فالسند منجبر دون الدلالة؛ وذلک لأنّ انجبار السند مستند إلی القرائن الواضحة، وأمّا الاتفاق علی الدلالة فهو مستند إلیٰ فهمهم من الکلام.
وتوهّم: أنّ انجبار السند بلا وجه، بعد إمکان اختلاف أفهامهم فی فهم المتن والحدیث، غیر مضرّ؛ لأنّ مجرّد الإمکان غیر کافٍ.
وما قیل: «قد اتفق فی الفقه، اختلافُ فهم المشهور والمتأخّرین فی مسألة «أخبار ماء البئر» فهو لأجل الاجتهادات المخصوص بها المتأخّرون، مع کثرة الأخبار فی المسألة التّی ربّما لا یصل إلیها القدماء؛ لعدم وجود الوسائل الکافیة عندهم.
هذا مع أنّ مجرّد المورد الواحد أو الموردین، لا یضرّ بما ذکرناه حسب الطبع، ولذلک نجد البناءات العقلائیّة علی الاتکال علیٰ فهم المشهور، ویعدّون المتردّد فی الأمر والشاکّ فی صحّة الاستناد، خارجاً عن المتعارف.
وغیر خفیّ: أنّ کثیراً ممّا ینسب إلی الشهرة القدیمة، ثمّ یخالفها المتأخّرون، لیست منها بعد المراجعة، ولا یمکن تحصیلها. والاشتهار فی الفتویٰ فی الفروع المستحدثة فی کلمات أمثال الشیخ، ومن یقرب من عصره، أو یتقدّم علیه أحیاناً، لا یکفی؛ لأنّه معلوم وجه استنباطه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 392
وأمّا أمثال الفتاوی الموجودة فی «المقنع» و «المقنعة» و «النهایة» المعدّة للاُصول المتلقّاة، وضبط الشهرات، وما هو المستفاد من الروایات الواضحة الدلالات غیر الواصلة إلینا، فهی الشهرة التی إذا کانت عملیّة تکون جابرة، وهذه الشهرة العملیّة المستندة فی کلماتهم قلیلة الوجود أیضاً، واتکال بعضهم فی بعض الکتب، لا یشهد علیٰ أنّ مستند الکلّ یکون الخبر، ولاسیّما بعد کون الحکم مطابقاً لإحدی القواعد.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 393