المقصد الثامن فی الظنّ

حول وجوه المنع عن دلالة الآیات الناهیة عن اتباع الظنّ

حول وجوه المنع عن دلالة الآیات الناهیة عن اتباع الظنّ

‏ ‏

‏نعم، بقیت بعض الوجوه الاُخر:‏

فمنها :‏ أنّ مقتضیٰ إطلاق الآیة ممنوعیّة الاستدلال بها؛ ضرورة أنّ اتباع‏‎ ‎‏الظواهر من مصادیق اتباع غیر العلم، ولازمه الزجر عن اتباع ظاهر الآیة والآیات‏‎ ‎‏المستدلّ بها هنا، وهذا جواب عن جمیع الآیات الناهیة‏‎[1]‎‏.‏

أقول:‏ قد مرّ منّا فی مباحث الظواهر، ما یتعلّق بهذه المسألة من البحوث‏‎[2]‎‏.‏

‏ومن الممکن أن یقال: إنّ هذه الآیة والآیات، تورث الوثوق والاطمئنان بأنّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 423
‏ما لیس بعلم ممنوع اتباعه، فیکون الخبر الواحد غیر المورث غیر حجّة حسب‏‎ ‎‏الآیة، وإذا کان مورثاً للوثوق والاطمئنان فلا بأس بحجّیته؛ لأنّه العلم عرفاً، والآیة‏‎ ‎‏تنهیٰ عن اتباع غیر العلم، فلا یتمّ ـ حسب مفادها ـ ما هو المقصود؛ وهو حجّیة‏‎ ‎‏مطلق خبر الثقة، وتکون رادعة عنه.‏

وإن شئت قلت:‏ لابدّ عقلاً من اختیار حجّیة هذه الآیة، وإلاّ تلزم اللغویّة،‏‎ ‎‏فحجّیة هذه الآیة ثابتة قطعاً، وعندئذٍ تکون مانعة من اتباع غیر العلم.‏

‏وهذا لیس من تخصیص الآیة بنفسها، کما فی «تهذیب الاُصول»‏‎[3]‎‏ ضرورة‏‎ ‎‏أنّ التخصیص فرع الشمول البدویّ، والانصراف یمنع عن الشمول، فلا وجه لما فیه:‏‎ ‎‏«من أنّ التخصیص إذا جاز بالنسبة إلیٰ نفسها، فیجوز بالنسبة إلیٰ أخبار الآحاد‏‎ ‎‏بأدلّة حجّیتها».‏

‏هذا مع أنّ الالتزام بحجّیة الظواهر بعد قطعیّة السند، ممّا هو ضروریّ؛ لأنّ‏‎ ‎‏القرآن جاء لهدایة البشر، فلابدّ عقلاً من ذلک فی خصوص ظواهرها، بخلاف ما هو‏‎ ‎‏ظنّی الصدور، فلیسا هما فی عَرْض واحد حتّیٰ عند العقلاء، ولو کانا واحداً عندهم‏‎ ‎‏ولکنّهما ـ حسب هذه الآیات، ونزول القرآن ـ مختلفین فی نظر الشرع، فتدبّر.‏

ومنها :‏ أنّ الحکومة والتخصیص ودعوی الانصراف، کلّها لو کانت غیر‏‎ ‎‏تامّة، ولکنّ الورود ممکن؛ فإنّ مفاد الآیة لیس إلاّ النهی عن اتباع غیر الحجّة،‏‎ ‎‏ضرورة أنّ «‏العلم‏» فی لسان الأخبار هی الحجّة، کما تقرّر فی محلّه؛ للقرائن‏‎ ‎‏الخاصّة، وفیما نحن فیه أیضاً یکون المراد منه الحجّة؛ إذ لو اُرید منه العلم‏‎ ‎‏الوجدانیّ، للزم تعطیل الأحکام الکثیرة، أو ورود التخصیص الأکثر المستهجن،‏‎ ‎‏انتهیٰ ما فی «تهذیب الاُصول» بإجماله‏‎[4]‎‏.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 424
ولا یخفیٰ:‏ أنّ الورود شأن أدلّة حجّیة خبر الواحد، لا السیرة فقط.‏

وفیه:‏ أنّه یمکن أن یکون العلم أو الوثوق والاطمئنان مراداً، وتکون الأخبار‏‎ ‎‏التی تورث الوثوق حجّة، فلا یلزم تخصیص، ویلزم منه مردوعیّة المدّعیٰ؛ وهو‏‎ ‎‏حجّیة الخبر الواحد علیٰ إطلاقه، ضرورة أنّ حجّیته فی الجملة ممّا لا یکاد ینکرها‏‎ ‎‏أحد، وهی من الضروریّ، فما هو المهمّ للمثبتین إثبات حجّیته علی الإطلاق، وهذه‏‎ ‎‏الآیات تمنع ذلک الإطلاق الذی هو مقصودهم فی المقام.‏

‏وکون المراد من «‏العلم‏» هی الحجّة أحیاناً فی بعض الأخبار للشواهد،‏‎ ‎‏لا یستلزم ذلک فی الآیة بعد اختلاف عصرهما.‏

‏هذا مع أنّه لو کان المراد من «العلم» هو العلم المنطقیّ الوجدانیّ، فلا یلزم إلاّ‏‎ ‎‏تخصیص واحد؛ وهو حجّیة الوثوق والاطمئنان، دون الخبر الواحد. وتعطیل طائفة‏‎ ‎‏من الأحکام ممّا لا یوجب القول بالحجّیة؛ لأنّ من ینکر حجّیته یلتفت إلیٰ ذلک،‏‎ ‎‏ویلتزم به جدّاً، ولا یعتقد أنّه من الأحکام الإلهیّة؛ حتّیٰ یستوحش من هذه الحملة‏‎ ‎‏الحیدریّة الروحانیّة.‏

ومنها :‏ أنّ مقصود المستدلّین بهذه الآیة ، ردع السیرة العقلائیّة القائمة علی‏‎ ‎‏العمل بالخبر الواحد، وهذا غیر ممکن؛ للزوم الدور، ضرورة أنّ رادعیّة الآیات‏‎ ‎‏موقوفة علیٰ عدم مخصّصیتها بالسیرة، ولو کانت مخصّصة بها لما أمکن أن تکون‏‎ ‎‏رادعة ، وعدم مخصّصیتهابها موقوف أیضاً علیٰ رادعیّتها عنها.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ لابدّ وأن تکون الآیات فی قوّة الردع عن السیرة، مع أنّ‏‎ ‎‏السیرة أقویٰ منها؛ لأنّها تخصّصها‏‎[5]‎‏.‏

أقول:‏ لیس المقصود من الردع إلاّ إبلاغ عدم الرضا بالسیرة العقلائیّة، وأمّا‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 425
‏الردع وقلع مادّة الفساد خارجاً، فهو لیس دأب الشرع فی مرحلة التقنین، فعلیه کما‏‎ ‎‏تکون السیرة علی القمار قبل الإسلام إلیٰ أن طلع الإسلام، ویکون باقیاً إلیٰ زماننا،‏‎ ‎‏ومع ذلک یردع عنه الشرع بقوله تعالیٰ: ‏‏«‏لاٰ تَأْکُلُوا أمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِل‏»‏‎[6]‎‎ ‎‏کذلک الأمر هنا، فإنّ السیرة العملیّة باقیة ودائمیّة وقدیمة، إلاّ أنّ الشرع ربّما أظهر‏‎ ‎‏عدم رضاه بها بهذه الآیة، فالآیة رادعیّتها موقوفة علیٰ کون إطلاقها مراداً، وإذا کان‏‎ ‎‏الأمر کذلک، یتبیّن عدم رضا الشرع بتلک السیرة العملیّة ولو کانت متعارفة بین‏‎ ‎‏المتشرّعة الجاهلین بالأمر.‏

وإن شئت قلت:‏ الکلام هنا فی أدلّة النافین، والمفروض عدم قیام الدلیل علیٰ‏‎ ‎‏حجّیة الخبر الواحد، بل المفروض عدم حجّیته حسب الأصل، ویکون ذکر هذه‏‎ ‎‏الأدلّة تأیـیداً لذلک الأصل ؛ وتأکیداً له، وتکون فی قوّة معارضة الأدلّة المثبتة علیٰ‏‎ ‎‏وجه لا یتمکّن المثبت من الخروج عن مقتضی الأصل الأوّلی المزبور بالتخصیص‏‎ ‎‏والتقیید، وعلیٰ هذا یکون النظر إلی السیرة نظر الشکّ فی کونها ممضاة، وعندئذٍ‏‎ ‎‏تصلح الآیات للردع عنها بالضرورة.‏

ولو قلنا:‏ بأنّ السیرة حجّة، وإنّما الردع یمنع عنها، فإنّ الآیات تمنع، فما فی‏‎ ‎‏کلام العلاّمة الأراکیّ ‏‏قدس سره‏‏ هنا‏‎[7]‎‏، لا یخلو من تأسّف. کما أنّ توهّم الدور غیر جائز،‏‎ ‎‏وسیمرّ علیک بعض الکلام حوله عند تقریب أدلّة المثبتین ، ووجه تمامیّة استدلالهم‏‎ ‎‏بالسیرة‏‎[8]‎‏.‏

بقی شیء :‏ لو أقرّ المنکر بوجود السیرة العملیّة علی العمل بالخبر الواحد‏‎ ‎‏عند طلوع الإسلام، فعدم ردع الشرع دلیل اعتبارها، وعندئذٍ لا یمکن أن تکون‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 426
‏الآیات رادعة عنها، ولا یمکن أن یکون النظر إلیها نظر الشکّ فی حجّیتها‏‎[9]‎‏.‏

وفیه:‏ أنّ عدم الردع المتعقّب بإظهار عدم الرضا حسب الآیة الشریفة، لا‏‎ ‎‏یکفی لکشف الإمضاء.‏

وتوهّم:‏ أنّ الآیة بحکم العامّ والمطلق بعد ورود المخصّص والمقیّد، غیر‏‎ ‎‏جائز فی مثل هذه الاُمور؛ ضرورة أنّ الردع عن المغروسات الذهنیّة والسیر‏‎ ‎‏الخارجیّة المحتاجة إلی الفرصة المناسبة، لا یدلّ علیٰ شیء، ولا یکشف عن الرضا‏‎ ‎‏والإمضاء، کما لا یخفیٰ، ومن هنا یظهر ضعف ما فی «تهذیب الاُصول» لحلّ‏‎ ‎‏المشکلة المزبورة‏‎[10]‎‏.‏

ومنها :‏ أنّ الخطاب فی هذه الآیة، یجوز أن یکون مخصوصاً بالنبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏فی المسائل الاُخر؛ لأنّ الآیات السابقة وإن کانت خطاباتها بصیغة الجمع، إلاّ أنّها‏‎ ‎‏أیضاً لیست متوجّهة إلیٰ عامّة المکلّفین؛ ضرورة أنّ التقرّب إلیٰ أموال الیتامیٰ، لا‏‎ ‎‏یجوز للفسّاق بالضرورة، ولیست العناوین المأخوذة عامّة شاملة لکلّ أحد، حتّیٰ‏‎ ‎‏یقال: بأنّ هذه الآیة فی سیاقها، فیکون المخاطب المکلّف، فالآیة مجملة‏‎[11]‎‏.‏

‏نعم، الآیات المتأخّرة عنها وإن کانت تناسب العموم، مثل قوله تعالیٰ:‏‎ ‎‏«‏وَلاٰ تَمْشِ فِی الْأرْضِ مَرَحَاً‏»‏‏ إلاّ أنّـه لا یکون حجّـة شرعیّـة علی الإطـلاق‏‎ ‎‏فیما نحن فیه.‏

ومنها :‏ أنّ الاتباع لما لیس به علم، إن کان هو کنایة عن العمل، فلازمه‏‎ ‎‏الاحتیاط فی الشبهات التحریمیّة، دون الوجوبیّة؛ لأنّ ترکها لیس عملاً. نعم الإتیان‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 427
‏بالشبهات الوجوبیة، أیضاً ممنوع ممّا لا یکون بها علم. وهذا قطعاً لیس مراداً، إلاّ‏‎ ‎‏إذا قلنا باختصاص الآیة الکریمة بالنبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لأنّه یعلم کلّ شیء عند الحاجة إلیه،‏‎ ‎‏فعلیٰ هذا تصبح الآیة ـ لأجل هذه الجهة ـ مجملة‏‎[12]‎‏.‏

ومنها :‏ أنّ المنهیّ هو اتباع ما لیس به علم، وکما یکون الاتباع لحکم الله ‏‎ ‎‏تعالی المعلوم خارجاً عنه، کذلک الاتباع للخبر الواحد المعلومة حجّیته، یکون‏‎ ‎‏خارجاً عنه تخصّصاً، وهذا لیس من الورود، ولا الحکومة، ولا التخصیص والتقیید.‏

وبالجملة:‏ حجّیة الخبر الواحد معلومة لنا بالضرورة، ولا یکون الحجیة ظنّیة‏‎ ‎‏ولو کان مؤدّاها ظنّیاً وإذا کان الاتباع عن خبر زرارة من الاتباع اللغویّ والعرفیّ،‏‎ ‎‏وکان اعتبار خبر زرارة قطعیّاً، یکون هو خارجاً عن منطوق الآیة.‏

وإن شئت قلت:‏ کلمة ‏‏«‏عِلْمٌ‏»‏‏ نکرة فی سیاق النفی، فـ ‏‏«‏لاٰ تَقْفُ مَا لَیْسَ‎ ‎لَکَ‏ ‏ بِهِ عِلْمٌ‏»‏‏ أی علم ما؛ لمکان التنوین الداخل علی النکرة، ولنا العلم بحجّیة‏‎ ‎‏خبر الثقة.‏

‏اللهمّ الاّ أن یقال: بأنّ دعوی العلم بالحجّیة بالنسبة إلیٰ مطلق خبر الثقة، من‏‎ ‎‏الجزاف المنهیّ، فتکون الآیة تامّة للرادعیّة.‏

ومن هنا یظهر:‏ أنّ توهّم المعارضة البدویّة بین ظاهر الآیة، وقطعیّة حجّیة‏‎ ‎‏الخبـر الواحـد ؛ وأنّه عندئـذٍ لابـدّ من الأخذ بما هو المقطوع، وترک الآیة إلیٰ‏‎ ‎‏أهلها، غیر صحیح؛ لأنّ ما هو المقطوع به هو الخبر الواحد فی الجملة؛ أی الخبر‏‎ ‎‏الواحـد الحاصـل منه الوثـوق والاطمئنـان، دون مطلقـه ، فیکون ظاهر الآیة باقیاً‏‎ ‎‏علیٰ قوّته للردع.‏

‏ولعمری، إنّه لولا ما أشرنا إلیه من طریان الإجمال علیٰ الآیة من تلک‏‎ ‎‏الناحیة، لکانت دلالتها علیٰ عدم رضا الشرع بإخبار الواحد غیر الحاصل منه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 428
‏الوثوق والاطمئنان، تامّة جدّاً.‏

بقی شیء:‏ یمکن أن یقال: إنّ مقتضیٰ قوله تعالیٰ: ‏‏«‏یَا أیُّها الَّذینَ آمَنُوا‎ ‎اجْتَنِبُوا کَثِیرَاً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ‏»‏‎[13]‎‏ عدم حجّیة مطلق الظنّ؛ عملاً بالعلم‏‎ ‎‏الإجمالیّ، فتدبّر.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 429

  • )) تهذیب الاُصول 2: 103.
  • )) تقدّم فی الصفحة 333 ـ 334 .
  • )) تهذیب الاُصول 2: 103.
  • )) تهذیب الاُصول 2: 104 ـ 105.
  • )) کفایة الاُصول : 348 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 161 ـ 162 ، الحاشیة علیٰ کفایة الاُصول ، المحقّق البروجردی 2 : 134 .
  • )) البقرة (2): 188.
  • )) نهایة الأفکار 3: 103 ـ 104.
  • )) یأتی فی الصفحة 502 ـ 504 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الخراسانی : 123 ـ 124 ، الحاشیة علیٰ کفایة الاُصول ، المحقّق البروجردی 2 : 133 ـ 134 .
  • )) تهذیب الاُصول 2: 106.
  • )) قوانین الاُصول: 453 / السطر 7.
  • )) قوانین الاُصول 1 : 453 / السطر 7 .
  • )) الحجرات (49): 12.