منع دلالة الآیة علیٰ حجّیة الخبر
اعلم: أنّ مادّة «التبیّن» بمعنی الظهور والبروز، والهیئة متعدّیة، فیکون المعنیٰ:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 452
أوضحوه وأبرزوه؛ أی أبرزوا الخبر والنبأ الجائی به الفاسق، أو بمعنیٰ تأمّلوه حتّیٰ یتّضح صدقه وکذبه، وأظهروا صدقه وکذبه. فعلیٰ هذا لو کان نبأ الفاسق واضح الصدق، فلا یجب التبیّن، ولا التأمّل، ولو تأمّلوه وفتّشوا عن صدقه وکذبه، ولم یتمکّنوا منه، لا یجوز اتباعه والعمل به.
فمنه یعلم: أنّ الأمر بالتبیّن کنایة عن أمر آخر، ولیس هو من الواجب النفسیّ، ولا الشرطیّ، حتّیٰ یقال: بأنّ التبیّن والتأمّل بعنوانهما شرط، بل الشرط هو وضوح صدق الخبر، أو صدق المخبر، فإنّه موجب لجواز العمل به، وأمّا التبیّن المنتهی إلی الکذب، فهو وإن کان من التبیّن والإیضاح عرفاً ولغة، ولکن لیس هو من العمل بالأمر؛ فیجوز العمل بالخبر، فإنّه باطل بالضرورة، فالجزاء جملة کنائیّة عن لزوم کون الخبر واضح الصدق، أو المخبر واضح الصدق.
وتوهّم: أنّ الواجب هو الفحص عن القرائن القائمة علی الصدق فی ناحیة المنطوق، وتکفی العدالة للقرینیّة فی ناحیة المفهوم، غیر صحیح؛ لأنّ التبیّن حتّیٰ باللغة والتفسیر هو الإیضاح والإبراز والإظهار، والضمیر یرجع إلی الخبر؛ أی تبیّنوه وأوضحوا صدقه.
فاحتمال کون المقصود، إیضاحَ صدق المخبر ولو لم یکن الخبر صادقاً؛ لأنّ صدق المخبر میزانه مطابقة الخبر للاعتقاد، وصدق الخبر میزانه مطابقة الخبر للواقع، باطل. مع أنّ التفصیل المذکور غیر تامّ، ومحرّر فی محلّه.
فتحصّل: أنّ مفاد المنطوق هوالتبیّن وإیضاح الخبر صدقاً، وأنّه کنایة عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 453
لزوم الاطلاع علیٰ صدق الخبر، فلو جاء فاسق بنبأ، وکان معلوم الصدق، فلا وجوب؛ لأنّ النتیجة حاصلة، فالأمر بالتبیّن أمر بالمقدّمة الوجودیّة لحصول الشرط؛ وهو وضوح صدق الخبر.
وإن شئت قلت: إنّ إیضاح الخبر صدقاً، واجب شرطیّ لجواز اتباعه، ویکون خبر الفاسق الواضح الصدق حجّةً.
فإذا کان النظر فی المنطوق إلیٰ حصول العلم والظهور صدقاً، ففی ناحیة المفهوم یشکل الأمر؛ لأنّ المقصود فی ناحیة المنطوق إذا کان العلم الشخصیّ بصدق خبر الفاسق؛ سواء کان من العلم المنطقیّ، أو کان علماً عادیّاً؛ وهو الوثوق والاطمئنان، فإنّه أیضاً إیضاح ووضوح عرفاً، وتبیّن لغةً، فلابدّ فی ناحیة المفهوم من کون النبأ الجائی به العادل، أیضاً متبیّناً من ناحیة کون المخبر عادلاً، فلا یثبت به شیء؛ لأنّ المدّعیٰ حجّیة خبر العادل؛ وإثبات کونه من الظنون النوعیّة المعتبرة.
إن قلت: مقتضی المفهوم دعویٰ: أنّ خبر المخبر الفاسق واضح ومتبیّن؛ وأنّه ظاهر فی عالم الادعاء؛ سواء کان واضحاً شخصیّاً، أم لم یکن.
قلت: هذا احتمال، وهنا احتمال اخر: وهو أنّ المتعارف بین العقلاء والناس، هو حصول الوثوق الشخصیّ من خبرالعادل، دون خبر الفاسق، ففی ناحیة المنطوق أوجب إیضاح صدقه، فی قبال ما هو المتعارف فی ناحیة المفهوم وخبر العادل.
هذا مع أنّ الالتزام بلزوم الوضوح الشخصیّ فی ناحیة خبر الفاسق دون خبر العادل، غیر موافق لمرام الکلّ؛ ضرورة أنّ خبر الفاسق القائمة علیٰ صدقه القرائن النوعیّة معتبر، فإذا فرضنا أنّ الآیة مثلاً، قائمة علیٰ إفادة شرط خاصّ فی ناحیة المنطوق وخبر الفاسق تعبّداً؛ علیٰ خلاف البناء العقلائیّ، فلا منع من هذا التعبّد فی ناحیة خبر العادل أیضاً، إلاّ أنّ إفادة ذلک بالمنطوق؛ للإشعار إلیٰ ما لا یکون حاصلاً نوعاً وعادةً، وإفادةَ هذا بالمفهوم للإشعار إلیٰ أنّه أمر حاصل نوعاً وعادةً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 454
ولو قیل: یکفی إیضاحه بالقرائن، وتکون العدالة فی ناحیة خبر العادل، من تلک القرائن.
قلنا: أنت ووجدانک، فهل تریٰ فی مورد قیام القرائن غیر المنتهیة إلی الظنّ، أو المجتمعة مع الظنّ الشخصیّ علیٰ خلافه: أنّ خبره واضح الصدق؟! کلاّ، فإذن لا تکفی العدالة.
وبالجملة تحصّل: أنّه علی القول بالمفهوم، لا یثبت بها المدّعیٰ؛ ضرورة أنّ لزوم کون خبر الفاسق، واضحَ الصدق فی ناحیة المنطوق، یقتضی أن لا یکون المعتبر إیضاح صدق خبر العادل لأجل أنّه واضح الصدق، وإلاّ لو کان النظر إلیٰ وضوح کذبه یلزم أسوئیّة حاله، فلابدّ من ضمّ المقدّمة الخارجیّة حتّیٰ علی القول: بأنّ الأمر هنا شرطیّ؛ لأنّ معنی الشرط هواشتراط کون خبر الفاسق واضح الصدق، وأمّا فی خبر العادل فلا یشترط لحجّیته وضوح الصدق؛ لعدم قابلیّته للحجّیة، وهذا هو معنی الأسوئیّة.
فإذا کان قابلاً بالضرورة، فلابدّ أن یرجع فی ناحیة المفهوم إلیٰ أنّ إیضاح الصدق غیر واجب؛ لوضوحه، فإن کان المفهوم معناه دعویٰ: أنّه واضح الصدق، فیثبت عموم المدّعیٰ بالضرورة.
وأمّا إذا کان مفاد المفهوم، إیکال الأمر إلی المتعارف الخارجیّ؛ وأنّه بحسب العادة واضح الصدق، فلا یحتاج إلی الإیضاح، فلا یثبت به عموم المدّعیٰ؛ وهو حجّیة خبر العادل مثلاً، أو خبر غیر الفاسق؛ سواء کان واضح الصدق تکویناً، أم لم یکن.
وغیر خفیّ: أنّه علی التقریب المزبور لو کان للآیة مفهوم، یثبت ادّعاء الشرع أنّ خبر العادل علم؛ وواضح الصدق، ولیس ظنّاً، ولا ممنوع العمل؛ وذلک لأجل أنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 455
العرف ینتقل من المنطوق ـ وهو إیجاب إیضاح صدقه ـ إلیٰ أنّ المفهوم لا یجب إیضاحه؛ لأنّه واضح الصدق عند المتکلّم، فاغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 456