بقی شیء : وهو إبطال علّیة الذیل وحذف الفعل
قد تبیّن من خلال ما ذکرناه؛ لوازم کون الجهالة بمعنی الجور والغلظة والخطأ، ولا یترتب علیها شیء یعتنیٰ به، والذی هو المهمّ بالبحث هو الخروج عن هذه الاحتمالات:
أمّا القول بالعلّیة، فهو بلا وجه جدّاً؛ لعدم الدلیل علیها إثباتاً إلاّ المناسبة، وهی أعمّ من کونه علّة، أو حکمة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 466
وأمّا القول بأنّ المحذوف هو الفعل، فیکون الذیل مورد الأمر الآخر المولویّ، فهو أیضاً مجرّد الاحتمال المساعد علیه الذوق أحیاناً، ولیس ذلک موجباً لأن یؤخذ به.
فبقی أن یکون الذیل حکمة لأصل الأمر بالتبیّن بالنظر إلی الجهات الغالبیّة النوعیّة، کما عرفت فی المثال السابق، فإنّ الأمر بالحجّ علیٰ تقدیر الاستطاعة، معلول تلک الاستطاعة؛ حسب العلّیة الواقعیّة، وأمّا کون وجوب الحجّ سیاسة للاُمّة، فهو من الحِکم والعلل لأصل التشریع علی النحو المزبور.
فإیجاب التبیّن عقیب خبر الفاسق عامّ اُصولیّ، أو إطلاق انحلالیّ عرفیّ، ولازم علیٰ کلّ أحد؛ لعلّیة الفسق، ولکن أصل إیجابه إجمالاً معلول الأمر الآخر: وهو ملاحظة کثرة الخطأ فی هذه الناحیة، وقلّة الجهالة فی الناحیة الاُخریٰ: وهی خبر العدل، وهذا لا ینافی عدم وجوب التبیّن فی مورد خبر العدل، ولو کان شخصاً مورد الجهالة والإصابة.
ویؤیّد أنّ القول بالتعلیل علیل، لزومُ بعض الإشکالات علیٰ بعض التقادیر، بوجه لا یمکن دفعها، بل یلزم إشکال علیٰ کلّ تقدیر ـ سواء قلنا: بأنّ الجهالة هی السفاهة، أم هی ضدّ العلمـ وهو خروج الأنباء المهتمّ بها. وأمّا علی القول: بأنّ الذیل لیس تعلیلاً اصطلاحیّاً، فلا محذور فی الآیة بحسب المفهوم ومفاد الذیل.
وغیر خفیّ: أنّه علیٰ تقدیر التنازل عمّا ذکرناه؛ والالتزام بالعلّیة، فالأظهر أنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 467
«الجهالة» حیث تکون فی الکتاب فهی السفاهة.
وإن شئت قلت: لیست الجهالة إلاّ ضدّ العلم بالنسبة إلیٰ عواقب الاُمور وتبعات الأفاعیل، أو بالنسبة إلیٰ نفس الفعل والعمل، ولیس ما اشتهر من تعدّد المعنیٰ للجهالة، فی محلّه، وإنّما الاختلاف فی موارد الجهل، فإن کان الجهل بأصل الفعل، فهی ضدّ العلم، وإن کان الجهل بآثار الفعل وعواقبه، فإذا اُقدم علیه یکون من السفاهة.
فعلیٰ کلّ تقدیر: هی ضدّ العلم. وأمّا ما هو المراد هنا فهو الجاهل لعواقب التبعیّة لخبر الفاسق.
ویؤیّد کون المراد منها لیس الجهل : أنّها استعملت فی أربع آیات:
فمنها: قوله تعالیٰ: «أنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْکُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ فَأنَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ».
والآیة الثانیة مثلها.
والثالثة: «إنّمَا التَّوْبَةُ عَلَیٰ الله ِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ».
ولا معنیٰ للتوبة فی مورد الجهل، فإنّ الجاهل معذور عقلاً وشرعاً، ولا یجب علیه التوبة والإصلاح، فیعلم منه أنّ الجهالة هی السفاهة، وهی المناسبة للحکم والموضوع، ولا معنیٰ للمخاطبة مع الجاهلین إذا کانوا غیر ملتفتین، بخلاف العالم بالقضیّة، والجاهل بتبعات العمل.
ویؤیّد ذلک قوله تعالیٰ: «فَتُصْبِحُوا عَلَیٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 468
فبالجملة: الملامة علیٰ أصل تبعیّة المؤمنین لخبر الفسّاق، والندامة بالنسبة إلیٰ ما یصبحون علیه أحیاناً عند التخلّف.
وممّا یؤیّد أنّ الذیل حِکمة تشریع: أنّ فی تبعیّة خبر الفاسق، لا یلزم الندامة علیٰ وجه عامّ؛ لإمکان اتفاق صدق خبره، فإذا کان الإصباح حکمة لا علّة، فالإصابة مثله.
ولعمری، إنّ الذیل حکمة بلا شبهة، وعلیه لا فرق فی کون الجهالة منعاً خاصّاً. وأمّا إذا کانت علّة، فالتـتبّع فی الآثار والدقّة فی خصوصیّات الآیة، تعطی جزماً أنّ المراد هو عدم العلم بتبعات خبر الفاسق.
ومن هنا یندفع الإشکال عن الآیة الشریفة: وهو أنّ المکلف إمّا أن یکون عالماً بخبر الفاسق، أو جاهلاً، فإن کان عالماً فلا مورد للذیل، وإن کان جاهلاً فلا مورد للصدر. فیعلم منه أنّه عالم بخبر الفاسق، وجاهل بعاقبة خبره وآثار نبئه عند التبعیّة والعمل به.
وبالجملة: الجهالة ولو کانت مشترکة لفظیّة بین ضدّ العلم والسفاهة، ولا یعقل فرض الاشتراک اللغویّ بینهما؛ بناءً علیٰ کونها من أوصاف الأفعال، ولا تکون من الصفات المحضة، ولکنّها هنا بمعنی السفاهة ظاهراً؛ للقرائن المشار إلیها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 469