المقصد الثامن فی الظنّ

ثالثها : التمسّک بمفهوم الشرط

ثالثها : التمسّک بمفهوم الشرط

‏ ‏

‏مفهوم الشرط، وقد تحرّرت حجّیته کبرویّاً فی مباحث المفهوم‏‎[1]‎‏، وأمّا هنا‏‎ ‎‏فإنّما الإشکال فی صغراه؛ ضرورة أنّ المفهوم الحجّة: هو المفهوم الذی یتصدّیٰ‏‎ ‎‏لنقیض الحکم المذکور فی المنطوق؛ إیجابیّاً کان، أو سلبیّاً، فلو کان الحکم سلبیّاً،‏‎ ‎‏فلابدّ من کون المفهوم ذا موضوع؛ ضرورة أنّ مقتضیٰ قاعدة الفرعیّة، وجوب وجود‏‎ ‎‏الموضوع فی القضایا الموجبة، وإذا کان المفهوم متصدّیاً للحکم الإیجابیّ، فلابدّ من‏‎ ‎‏وجود الموضوع له، وإذا کان المفهوم متصدّیاً للحکم السلبیّ، کما نحن فیه، فلابدّ‏‎ ‎‏أیضاً من وجود الموضوع، حتّیٰ یصحّ اعتبار عدم الوجوب شرعاً، وإلاّ فعدم‏‎ ‎‏الوجوب الشرعیّ، غیر معقول بعد انتفاء الموضوع ذاتاً، ویکون ذلک لغواً.‏

مثلاً:‏ إذا قیل: «إن رزقت ولداً فلا تختنه» فمفهومه إن لم ترزق اختنه، وهذا‏‎ ‎‏غیر معقول؛ لأنّ إثبات الاختـتان عند عدم الولد منع، وإیجابه غیر ممکن. وهکذا‏‎ ‎‏إذا قیل: «إن رزقت ولداً فاختنه» لأنّ عند عدم الولد، لا معنیٰ لاعتبار عدم وجوب‏‎ ‎‏الاختـتان أو تحریمه؛ لأنّه لغو واضح.‏

‏وفیما نحن فیه یکون مفهوم الآیة من هذا القبیل، فإنّ مفهومها «إن لم یجئ‏‎ ‎‏الفاسق بالنبأ فلا تبیّنوه» ولا معنیٰ لإیجاب عدم التبیّن أو تحریم التبیّن عند عدم‏‎ ‎‏وجود النبأ؛ لأنّه من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع، أو هو من اللغو.‏

‏فما فی کلام القول: «من أنّ حجّیة المفهوم هنا ممنوعة؛ لکونها من السالبة‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 474
‏بانتفاء الموضوع»‏‎[2]‎‏ غیر سدید؛ لأنّ القضیّة من القضایا الإنشائیّة، ولا منع ذاتاً من‏‎ ‎‏السلب المذکور، ولکنّه من اللغو الممنوع ذاتاً فی حقّ الشرع.‏

أقول:‏ قد تصدّیٰ فی «الکفایة» لحلّ الإشکال: بأنّ الآیة ترجع إلیٰ أنّ النبأ‏‎ ‎‏الـمُجاء به إن کان الجائی به الفاسق فلا تبیّنوه، فیکون النبأ موجوداً وموضوعاً‏‎ ‎‏ومجاءً به عندنا، فتخرج القضیّة عن الانتفاء بانتفاء الموضوع‏‎[3]‎‏.‏

وفیه:‏ أنّ ذلک البیان یجری فی الأمثلة المذکورة؛ لکون الشرط محقّق‏‎ ‎‏الموضوع، ففی قولک: «إن رزقت ولداً» یکون المعنیٰ «الولد المرزوق إن کنت‏‎ ‎‏رزقت به فاختنه» والمفهوم حینئذٍ لیس من السلب بانتفاء الموضوع.‏

وبالجملة:‏ إنّه ‏‏قدس سره‏‏ تخیّل کفایة إمکان إرجاع القضیّة الموجودة إلی القضیّة‏‎ ‎‏المقصودة، وهو واضح المنع؛ لأنّ المناط مساعدة العرف علیٰ ذلک، فلا تخلط.‏

‏وتصدّی العلاّمة الأراکیّ ‏‏قدس سره‏‏ لحلّ المعضلة‏‎[4]‎‏، وهکذا توهّم العلاّمة المحشّی‏‎ ‎‏الأصفهانیّ ‏‏رحمه الله‏‎[5]‎‏: أنّ حلّ المشکلة منوط بذلک.‏

وإجماله:‏ أنّ الآیة تکون هکذا: «إن کان الجائی بالنبأ فاسقاً فتبیّنوه» کما فی‏‎ ‎‏کلام العلاّمة النائینیّ ‏‏رحمه الله‏‏ أیضاً‏‎[6]‎‏، وعلیه یثبت المفهوم؛ وذلک لأنّ فی فرض عدم‏‎ ‎‏مجیء الفاسق به صورتین:‏

الاُولیٰ:‏ السالبة بانتفاء الموضوع.‏

والثانیة:‏ السالبة بانتفاء المحمول.‏

‏ویکون مقتضیٰ دلالة الاقتضاء حینئذٍ، حملها علی الثانی، کما فی کلام‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 475
‏بعضهم‏‎[7]‎‏.‏

أو یقال:‏ إنّ التعبّد بنحو الإطلاق ممکن، وتستنتج منه حجّیة خبر العدل؛‏‎ ‎‏لخروج القضیّة بذلک عن السالبة بانتفاء الموضوع‏‎[8]‎‏.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّه یحتاج بیانه إلیٰ تـتمیم أشرنا إلیه، وإلاّ فإطلاق المفهوم ممّا لا‏‎ ‎‏یمکن التعبّد به، وعندئذٍ یمکن أن یکون ذلک موجباً لانتفاء المفهوم، وأمّا إذا‏‎ ‎‏اُضیفت إلیه تلک المقدّمة، فلازم التعبّد بالمفهوم، انحصار المفهوم بالسالبة بانتفاء‏‎ ‎‏المحمول، وهو المطلوب. وقد جاء فی «التهذیب» حول هذا التقریب بما لا مزید‏‎ ‎‏علیه‏‎[9]‎‏، فراجع.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّه لا نحتاج فی التقریب المذکور إلیٰ قلب القضیّة الموجودة إلی‏‎ ‎‏القضیّة الاُخریٰ، ولیس نظرهم ‏‏قدس سرهم‏‏ إلی القلب ظاهراً، والأمر سهل.‏

‏ولکنّ الذی یتوجّه إلیه: أنّ المصداق الأظهر للمفهوم؛ هی صورة الانتفاء‏‎ ‎‏بانتفاء الموضوع، وبعد إمکان کون الشرط محقّقاً للموضوع ـ کما فی الأمثلة‏‎ ‎‏الکثیرة ـ لا وجه لأخذ الإطلاق، ثمّ حمله علی الفرد غیر الواضح، فبُعْد هذا الوجه‏‎ ‎‏والوجه الأوّل علیٰ حدّ سواء، کما هو الظاهر.‏

‏وهنا تقریب ثالث: وهو أنّ القضیّة الشرطیّة القانونیّة، قابلة للجعل ولو لم‏‎ ‎‏یکن للشرط مصداق خارجیّ، ویکون لها المفهوم وإن لم یکن للشرط المعتبر فی‏‎ ‎‏ناحیة المفهوم مصداق.‏

مثلاً:‏ إذا قیل: «إن جاءک العالم أکرمه» صحّ هذا القانون الکلّی المتصدّی‏‎ ‎‏لجعل الملازمة ولو لم یکن فیالعالم عالم، أو کان عالم، ولم یجئ، وهکذا فی ناحیة‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 476
‏المفهوم، وإذا تحقّق موضوع القضیّة الشرطیّة المنطوق بها، یتنجّز الحکم، وهکذا فی‏‎ ‎‏ناحیة المفهوم.‏

‏وإذا ورد: ‏‏«‏إنْ جَائَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا ...‏»‏‎[10]‎‏ فهو قضیّة صحیحة نافذة ولو‏‎ ‎‏لم یکن فی العالم فاسق، ولا نبأ، وإذا قیل : «إن لم یجئ إلیکم الفاسق بنبأ ...»‏‎ ‎‏فالأمر کذلک.‏

‏ففی مرحلة جعل القضایا الشرطیّة القانونیّة، لیس النظر إلیٰ وجود الشرط‏‎ ‎‏فی ناحیة المنطوق، ولا المفهوم، بل النظر إلیٰ بیان الملازمة بین الحکمین فی‏‎ ‎‏الناحیتین حکماً إیجابیّاً، وسلبیّاً.‏

‏إذا توجّهت إلیٰ ذلک، فلیلتفت إلیٰ أمر آخر: وهو أنّه کما یکون فی ناحیة‏‎ ‎‏المنطوق وجود العالم والنبأ مفروضاً، لا واقعیّاً؛ لأنّ الواقعیّات خارجة عن محیط‏‎ ‎‏التقنین، کذلک الأمر فی ناحیة المفهوم، فیکون النبأ مفروضاً، وعدم مجیء الفاسق‏‎ ‎‏به أیضاً مفروضاً.‏

وبالجملة:‏ ما هوالمفروض عدم مجیء الفاسق بالنبأ المفروض الوجود،‏‎ ‎‏ولازم ذلک ـ مضافاً إلیٰ حلّ المشکلة ـ هو أنّ فی موارد الشکّ فی أنّ النبأ هل جاء‏‎ ‎‏به الفاسق، أم العادل وغیر الفاسق، یستصحب عدم مجیء الفاسق به، ویکون النبأ‏‎ ‎‏محرزاً بالوجدان، کما هو مفروض الوجود فی القوانین العامّة.‏

‏ولعمری، إنّ هذا التقریب خالٍ من المناقشة الثبوتیّة، ولا یحتاج إلیٰ إثبات‏‎ ‎‏الإطلاق الشامل للصورتین.‏

‏نعم، ربّما یستظهر من الآیة: أنّ قوله تعالیٰ ‏‏«‏بِنَبَأٍ‏»‏‏ من متعلّقات الفعل‏‎ ‎‏المضاف إلی الفاسق، فیکون مفروض العدم عند فرض عدم مجیئه.‏

‏ویمکن المناقشة فی الاستظهار المذکور بالتأمّل فی قولک: «وإن لم یجئک‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 477
‏زید بعالم فلا تکرمه» فإنّ العالم کلّی یمکن أن یکون موجوداً، ویمکن أن یکون‏‎ ‎‏معدوماً، ومع ذلک ینقدح فی الذهن مفروضیّة وجوده، وفی المقام یکون الأمر کما‏‎ ‎‏تحرّر، فتدبّر.‏

‏وربّما یؤیّد التقریب المذکور: إتیان القضیّة الشرطیّة علی الوجه المزبور، وإلاّ‏‎ ‎‏فلو قیل: «إن أنبأکم الفاسق فتبیّنوه» أو قیل: «إن جاءکم نبأ الفاسق فتبیّنوه» یحصل‏‎ ‎‏المقصود.‏

‏وأمّا اختصاص النبأ بالذکر من غیر إضافة، بعد کون التنوین للتمکّن، بل ولو‏‎ ‎‏کان للتنکیر فلا یکون المقصود فاسقاً خاصّاً بالضرورة، فهو یومئ إلیٰ أنّ النبأ‏‎ ‎‏مفروض الوجود، وعدمَ مجیء الفاسق به أیضاً مفروض.‏

وإن شئت قلت:‏ ینتقل ذهن المستمع من عدم المجیء إلیٰ عدم تحقّقه، ومن‏‎ ‎‏الفاسق إلی الفاسق الخارجیّ، ومن النبأ أیضاً إلی النبأ الخارجیّ، وتصیر النتیجة‏‎ ‎‏فرضَ عدم مجیء الفاسق الخارجیّ بالنبأ الخارجیّ، من غیر کونه موضوعاً لما فی‏‎ ‎‏الخارج بخصوصه.‏

‏وهنا تقریب آخر: وهو أنّ هذه الآیة تارة: تلحظ فی محیط الموالی‏‎ ‎‏العرفیّـین والعبید الذین یکون بینهما من الأنباء النادرة الیومیّة.‏

واُخریٰ:‏ تلاحظ فی محیط التشریعات والأحکام الکثیرة المشروعة، المذاعة‏‎ ‎‏فی العالم بتوسّط المخبرین الفاسقین والعادلین وطائفة ثالثة.‏

‏فإذا لوحظت فی المحیط الأوّل، فلا یکون المفهوم ظاهراً فی مفروضیّة‏‎ ‎‏وجود النبأ، بخلاف المحیط الثانی، فإنّه إذا سمع کلّ واحد من المتشرّعین هذه‏‎ ‎‏الآیة، الذین یستمعون فی کلّ یوم أحکاماً خاصّة بتوسّط الأصحاب وحملة‏‎ ‎‏الحدیث، فینقدح فی أذهانهم أنّ الأنباء الواصلة إلیکم علیٰ قسمین:‏

‏فقسم منها: ما یجیء به إلیکم الفاسق، وحکمه التبیّن.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 478
‏والقسم الآخر: مالا یجیء به إلیکم الفاسق، وحکمه عدم التبیّن.‏

‏وحیث إنّها فی سورة الحجرات وهی مدنیّة، وقد کان أصحابه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏یخبرون عن الأحکام وینقلونها؛ حسبما اشتهر: أنّه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ قد بیّن ‏«حتّیٰ أرش‎ ‎الخدش»‎[11]‎‏ فالمتبادر منها هو النبأ الحامل للحکم المتعارف بینکم، أو الموضوع‏‎ ‎‏ذی الحکم.‏

‏ومن هنا یظهر وجه المناقشة فی إشکال یتوجّه إلیٰ الآیة: وهو أنّ إطلاق‏‎ ‎‏الآیة غیر قابل للعمل به؛ ضرورة عدم وجوب التبیّن فی المسائل العادیّة والقضایا‏‎ ‎‏الاجتماعیة. مع صدق ذیلها فیها أیضاً، فإنّ الآیة الشریفة کأنّها بصدد الردع عن‏‎ ‎‏اتباع قول الفاسق؛ فیما یرتبط بالوحی وأحکام الله ، وما یکون موضوعاً لها، وعلیٰ‏‎ ‎‏کلّ تقدیر تکون الآیة منصرفة عنها جدّاً.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ ظهور المنطوق فی التعلیق؛ وأنّ الحکم معلّق علیٰ مجیء‏‎ ‎‏الفاسق، وأنّه لا یناسب الشرط؛ لکونه محقّقاً للموضوع هنا، یورث قوّة کون‏‎ ‎‏المفروض فی المفهوم، ما لا یکون من السالبة بانتفاء الموضوع.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 479

  • )) تقدّم فی الجزء الخامس : 21 وما بعدها .
  • )) فرائد الاُصول 1: 118 .
  • )) کفایة الاُصول: 340.
  • )) نهایة الأفکار 3: 111 ـ 112.
  • )) نهایة الدرایة 3: 205 ـ 206.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 169 ـ 170.
  • )) نهایة الأفکار 3: 111 ـ 112، منتهیٰ الاُصول 2: 99.
  • )) نهایة الأفکار 3: 112.
  • )) تهذیب الاُصول 2: 109 ـ 110.
  • )) الحجرات (49): 6.
  • )) جامع أحادیث الشیعة 1: 34 المقدّمات، الحدیث 10.