ثالثها : التمسّک بمفهوم الشرط
مفهوم الشرط، وقد تحرّرت حجّیته کبرویّاً فی مباحث المفهوم، وأمّا هنا فإنّما الإشکال فی صغراه؛ ضرورة أنّ المفهوم الحجّة: هو المفهوم الذی یتصدّیٰ لنقیض الحکم المذکور فی المنطوق؛ إیجابیّاً کان، أو سلبیّاً، فلو کان الحکم سلبیّاً، فلابدّ من کون المفهوم ذا موضوع؛ ضرورة أنّ مقتضیٰ قاعدة الفرعیّة، وجوب وجود الموضوع فی القضایا الموجبة، وإذا کان المفهوم متصدّیاً للحکم الإیجابیّ، فلابدّ من وجود الموضوع له، وإذا کان المفهوم متصدّیاً للحکم السلبیّ، کما نحن فیه، فلابدّ أیضاً من وجود الموضوع، حتّیٰ یصحّ اعتبار عدم الوجوب شرعاً، وإلاّ فعدم الوجوب الشرعیّ، غیر معقول بعد انتفاء الموضوع ذاتاً، ویکون ذلک لغواً.
مثلاً: إذا قیل: «إن رزقت ولداً فلا تختنه» فمفهومه إن لم ترزق اختنه، وهذا غیر معقول؛ لأنّ إثبات الاختـتان عند عدم الولد منع، وإیجابه غیر ممکن. وهکذا إذا قیل: «إن رزقت ولداً فاختنه» لأنّ عند عدم الولد، لا معنیٰ لاعتبار عدم وجوب الاختـتان أو تحریمه؛ لأنّه لغو واضح.
وفیما نحن فیه یکون مفهوم الآیة من هذا القبیل، فإنّ مفهومها «إن لم یجئ الفاسق بالنبأ فلا تبیّنوه» ولا معنیٰ لإیجاب عدم التبیّن أو تحریم التبیّن عند عدم وجود النبأ؛ لأنّه من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع، أو هو من اللغو.
فما فی کلام القول: «من أنّ حجّیة المفهوم هنا ممنوعة؛ لکونها من السالبة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 474
بانتفاء الموضوع» غیر سدید؛ لأنّ القضیّة من القضایا الإنشائیّة، ولا منع ذاتاً من السلب المذکور، ولکنّه من اللغو الممنوع ذاتاً فی حقّ الشرع.
أقول: قد تصدّیٰ فی «الکفایة» لحلّ الإشکال: بأنّ الآیة ترجع إلیٰ أنّ النبأ الـمُجاء به إن کان الجائی به الفاسق فلا تبیّنوه، فیکون النبأ موجوداً وموضوعاً ومجاءً به عندنا، فتخرج القضیّة عن الانتفاء بانتفاء الموضوع.
وفیه: أنّ ذلک البیان یجری فی الأمثلة المذکورة؛ لکون الشرط محقّق الموضوع، ففی قولک: «إن رزقت ولداً» یکون المعنیٰ «الولد المرزوق إن کنت رزقت به فاختنه» والمفهوم حینئذٍ لیس من السلب بانتفاء الموضوع.
وبالجملة: إنّه قدس سره تخیّل کفایة إمکان إرجاع القضیّة الموجودة إلی القضیّة المقصودة، وهو واضح المنع؛ لأنّ المناط مساعدة العرف علیٰ ذلک، فلا تخلط.
وتصدّی العلاّمة الأراکیّ قدس سره لحلّ المعضلة، وهکذا توهّم العلاّمة المحشّی الأصفهانیّ رحمه الله: أنّ حلّ المشکلة منوط بذلک.
وإجماله: أنّ الآیة تکون هکذا: «إن کان الجائی بالنبأ فاسقاً فتبیّنوه» کما فی کلام العلاّمة النائینیّ رحمه الله أیضاً، وعلیه یثبت المفهوم؛ وذلک لأنّ فی فرض عدم مجیء الفاسق به صورتین:
الاُولیٰ: السالبة بانتفاء الموضوع.
والثانیة: السالبة بانتفاء المحمول.
ویکون مقتضیٰ دلالة الاقتضاء حینئذٍ، حملها علی الثانی، کما فی کلام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 475
بعضهم.
أو یقال: إنّ التعبّد بنحو الإطلاق ممکن، وتستنتج منه حجّیة خبر العدل؛ لخروج القضیّة بذلک عن السالبة بانتفاء الموضوع.
وغیر خفیّ: أنّه یحتاج بیانه إلیٰ تـتمیم أشرنا إلیه، وإلاّ فإطلاق المفهوم ممّا لا یمکن التعبّد به، وعندئذٍ یمکن أن یکون ذلک موجباً لانتفاء المفهوم، وأمّا إذا اُضیفت إلیه تلک المقدّمة، فلازم التعبّد بالمفهوم، انحصار المفهوم بالسالبة بانتفاء المحمول، وهو المطلوب. وقد جاء فی «التهذیب» حول هذا التقریب بما لا مزید علیه، فراجع.
وغیر خفیّ: أنّه لا نحتاج فی التقریب المذکور إلیٰ قلب القضیّة الموجودة إلی القضیّة الاُخریٰ، ولیس نظرهم قدس سرهم إلی القلب ظاهراً، والأمر سهل.
ولکنّ الذی یتوجّه إلیه: أنّ المصداق الأظهر للمفهوم؛ هی صورة الانتفاء بانتفاء الموضوع، وبعد إمکان کون الشرط محقّقاً للموضوع ـ کما فی الأمثلة الکثیرة ـ لا وجه لأخذ الإطلاق، ثمّ حمله علی الفرد غیر الواضح، فبُعْد هذا الوجه والوجه الأوّل علیٰ حدّ سواء، کما هو الظاهر.
وهنا تقریب ثالث: وهو أنّ القضیّة الشرطیّة القانونیّة، قابلة للجعل ولو لم یکن للشرط مصداق خارجیّ، ویکون لها المفهوم وإن لم یکن للشرط المعتبر فی ناحیة المفهوم مصداق.
مثلاً: إذا قیل: «إن جاءک العالم أکرمه» صحّ هذا القانون الکلّی المتصدّی لجعل الملازمة ولو لم یکن فیالعالم عالم، أو کان عالم، ولم یجئ، وهکذا فی ناحیة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 476
المفهوم، وإذا تحقّق موضوع القضیّة الشرطیّة المنطوق بها، یتنجّز الحکم، وهکذا فی ناحیة المفهوم.
وإذا ورد: «إنْ جَائَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا ...» فهو قضیّة صحیحة نافذة ولو لم یکن فی العالم فاسق، ولا نبأ، وإذا قیل : «إن لم یجئ إلیکم الفاسق بنبأ ...» فالأمر کذلک.
ففی مرحلة جعل القضایا الشرطیّة القانونیّة، لیس النظر إلیٰ وجود الشرط فی ناحیة المنطوق، ولا المفهوم، بل النظر إلیٰ بیان الملازمة بین الحکمین فی الناحیتین حکماً إیجابیّاً، وسلبیّاً.
إذا توجّهت إلیٰ ذلک، فلیلتفت إلیٰ أمر آخر: وهو أنّه کما یکون فی ناحیة المنطوق وجود العالم والنبأ مفروضاً، لا واقعیّاً؛ لأنّ الواقعیّات خارجة عن محیط التقنین، کذلک الأمر فی ناحیة المفهوم، فیکون النبأ مفروضاً، وعدم مجیء الفاسق به أیضاً مفروضاً.
وبالجملة: ما هوالمفروض عدم مجیء الفاسق بالنبأ المفروض الوجود، ولازم ذلک ـ مضافاً إلیٰ حلّ المشکلة ـ هو أنّ فی موارد الشکّ فی أنّ النبأ هل جاء به الفاسق، أم العادل وغیر الفاسق، یستصحب عدم مجیء الفاسق به، ویکون النبأ محرزاً بالوجدان، کما هو مفروض الوجود فی القوانین العامّة.
ولعمری، إنّ هذا التقریب خالٍ من المناقشة الثبوتیّة، ولا یحتاج إلیٰ إثبات الإطلاق الشامل للصورتین.
نعم، ربّما یستظهر من الآیة: أنّ قوله تعالیٰ «بِنَبَأٍ» من متعلّقات الفعل المضاف إلی الفاسق، فیکون مفروض العدم عند فرض عدم مجیئه.
ویمکن المناقشة فی الاستظهار المذکور بالتأمّل فی قولک: «وإن لم یجئک
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 477
زید بعالم فلا تکرمه» فإنّ العالم کلّی یمکن أن یکون موجوداً، ویمکن أن یکون معدوماً، ومع ذلک ینقدح فی الذهن مفروضیّة وجوده، وفی المقام یکون الأمر کما تحرّر، فتدبّر.
وربّما یؤیّد التقریب المذکور: إتیان القضیّة الشرطیّة علی الوجه المزبور، وإلاّ فلو قیل: «إن أنبأکم الفاسق فتبیّنوه» أو قیل: «إن جاءکم نبأ الفاسق فتبیّنوه» یحصل المقصود.
وأمّا اختصاص النبأ بالذکر من غیر إضافة، بعد کون التنوین للتمکّن، بل ولو کان للتنکیر فلا یکون المقصود فاسقاً خاصّاً بالضرورة، فهو یومئ إلیٰ أنّ النبأ مفروض الوجود، وعدمَ مجیء الفاسق به أیضاً مفروض.
وإن شئت قلت: ینتقل ذهن المستمع من عدم المجیء إلیٰ عدم تحقّقه، ومن الفاسق إلی الفاسق الخارجیّ، ومن النبأ أیضاً إلی النبأ الخارجیّ، وتصیر النتیجة فرضَ عدم مجیء الفاسق الخارجیّ بالنبأ الخارجیّ، من غیر کونه موضوعاً لما فی الخارج بخصوصه.
وهنا تقریب آخر: وهو أنّ هذه الآیة تارة: تلحظ فی محیط الموالی العرفیّـین والعبید الذین یکون بینهما من الأنباء النادرة الیومیّة.
واُخریٰ: تلاحظ فی محیط التشریعات والأحکام الکثیرة المشروعة، المذاعة فی العالم بتوسّط المخبرین الفاسقین والعادلین وطائفة ثالثة.
فإذا لوحظت فی المحیط الأوّل، فلا یکون المفهوم ظاهراً فی مفروضیّة وجود النبأ، بخلاف المحیط الثانی، فإنّه إذا سمع کلّ واحد من المتشرّعین هذه الآیة، الذین یستمعون فی کلّ یوم أحکاماً خاصّة بتوسّط الأصحاب وحملة الحدیث، فینقدح فی أذهانهم أنّ الأنباء الواصلة إلیکم علیٰ قسمین:
فقسم منها: ما یجیء به إلیکم الفاسق، وحکمه التبیّن.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 478
والقسم الآخر: مالا یجیء به إلیکم الفاسق، وحکمه عدم التبیّن.
وحیث إنّها فی سورة الحجرات وهی مدنیّة، وقد کان أصحابه صلی الله علیه و آله وسلم یخبرون عن الأحکام وینقلونها؛ حسبما اشتهر: أنّه صلی الله علیه و آله وسلم قد بیّن «حتّیٰ أرش الخدش» فالمتبادر منها هو النبأ الحامل للحکم المتعارف بینکم، أو الموضوع ذی الحکم.
ومن هنا یظهر وجه المناقشة فی إشکال یتوجّه إلیٰ الآیة: وهو أنّ إطلاق الآیة غیر قابل للعمل به؛ ضرورة عدم وجوب التبیّن فی المسائل العادیّة والقضایا الاجتماعیة. مع صدق ذیلها فیها أیضاً، فإنّ الآیة الشریفة کأنّها بصدد الردع عن اتباع قول الفاسق؛ فیما یرتبط بالوحی وأحکام الله ، وما یکون موضوعاً لها، وعلیٰ کلّ تقدیر تکون الآیة منصرفة عنها جدّاً.
وغیر خفیّ: أنّ ظهور المنطوق فی التعلیق؛ وأنّ الحکم معلّق علیٰ مجیء الفاسق، وأنّه لا یناسب الشرط؛ لکونه محقّقاً للموضوع هنا، یورث قوّة کون المفروض فی المفهوم، ما لا یکون من السالبة بانتفاء الموضوع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 479