التنبیه الثانی : حول مشکلة الأخبار مع الوسائط
لو سلّمنا تمامیّة الأدلّة الناهضة علیٰ حجّیة الخبر الواحد؛ بحسب الکبری الکلّیة، ولکن أخبار کتب الأخبار، وآثار الأئمّة علیهم السلام کلّها مورد الإشکال؛ لکونها من الأخبار مع الواسطة، فما هو مهمّة المثبتین خارج عن کبریٰ دلیلهم؛ وذلک لإشکالات بین ما تکون عرفیّة عقلائیّة، وبین ما هی عقلیّة.
ثمّ هی بین ما یشترک بین الوسائط الکثیرة والواسطة الواحدة، وبین ما یختصّ بالوسائط الکثیرة.
اُولاها : دعویٰ انصراف الأدلّة اللفظیّة عن شمول الأخبار مع الوسائط الکثیرة.
وما قد یقال: إنّه لا معنیٰ له؛ لأنّ کلّ خبر حاکٍ للخبر المتّصل به، وهو إخبار عن إخبار، فی غیر محلّه؛ لأنّا نریٰ قصور الأدلّة وانصرافها جدّاً؛ فیما إذا کان الخبر فی هذا العصر إلیٰ عصر نوح ـ علیٰ نبیّنا وآله وعلیه السلام ـ ولیس ذلک إلاّ لأنّ العقلاء لا یرون الخبر إلاّ مضمون المخبر به.
ثمّ لا وجه لدعوی الانصراف فی الأربعة والسبعة والثمانیة، وفی أخبارنا لا یزید علیها إلاّ شاذّاً. ولو شکّ فی الانصراف فالأصل اللفظیّ متّبع.
والذی هو المهمّ: أنّ الأدلّة اللفظیّة غیر موجودة فی حجّیة الخبر الواحد، حتّیٰ یدّعی الانصراف.
ثانیتها : قصور ما هو الدلیل الوحید عن الإخبار مع الوسائط؛ لأنّ بناءات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 521
العقلاء المرضیّة التی بمرأیٰ ومنظر من الشرع، لیست إلاّ بناءات عملیّة، وهی لا تزید علی الواسطتین، أو الثلاث، وربّما یمکن ردعها إذا کانت علی الأکثر. وما بین أیدینا من الأخبار غیر معلوم حجّیتها بالبناء العرفیّ، وما هو الثابت به غیر ذلک، وقد مرّ منا المناقشة فیه من جهة اُخریٰ.
وأمّا تنقیح المناط وإلغاء الخصوصیّة، فهو محلّ خلاف بین الأعلام؛ لاختلاف النفوس فی ذلک مع أنّ فی صورة کثرة الوسائل لا یمکن تنقیح المناط وإلغاؤها؛ لأنّ الخبر حینئذٍ أبعد عن الواقع بالضرورة.
فبالجملة: الدلیل الوحید قاصر عن شمول الوسائط.
وأمّا ما فی «تهذیب الاُصول»: «من أنّ العقلاء یحتجّون بما وصل إلیهم بوسائط کثیرة؛ أکثر ممّا هو الموجود عندنا» فهو لا ینفع؛ لأنّ احتجاج العقلاء مادام لم ینضمّ إلیه الرضا لا یفید.
فما هو الحلّ لهذا الإشکال ما عرفت منّا: من أنّ فی خصوص هذه الأخبار الموجودة بین أیدینا، ینهض دلیل الحجّیة؛ لأنّها أخبار شخصیّة کانت بین أیادی الرواة إلیٰ أن وصلت إلیٰ عصر التألیف، فصارت مضبوطة فی کتبهم، وکانوا یحتجّون ویعملون بها بعد مراعاة شرائط العمل، فلا ینبغی الخلط بین خبر یحکیٰ لنا فی الیوم بوسائط کثیرة راجعة عن موضوع فی عصر إسماعیل وإبراهیم علیهماالسلام وبین هذه الأخبار التی کانت یحکیها الرواة أوّلاً بلا واسطة، ثمّ صارت مع الواسطتین، ثمّ صارت مع الوسائط الثلاث، إلی الأربع، والسبع، والتسع أحیاناً، فإنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 522
ذلک ـ ولو بلغ ألف واسطة ـ لا یضرّ؛ لأنّ شخص هذه الأخبار کانت مورد العمل والاحتجاج بمرأی الأئمّة المتأخّرین، فکان بمرأی العسکریّ علیه السلام العمل بها مع الوسائط الکثیرة.
وبالجملة: لو کانت الأخبار مع الوسائط الکثیرة مورد المناقشة، کما إذا أخبر بوسائط کثیرة عادل بطهارة المسبوق بالنجاسة، فربّما یشکل بناء العقلاء علیه؛ للکثرة المورثة لضعف الصدق أحیاناً، ولکن فی خصوص مهمّـتـنا ـ وهی أخبار کتب الحدیث الموجودة بین أیدینا ـ لا إشکال حتّیٰ إذا ورد الدلیل علیٰ عدم حجّیة الإخبار مع الوسائط الکثیرة، فإنّ هذه الأخبار خارجة عنها؛ لما اُشیر إلیه.
وما فی «تهذیب الاُصول» ـ مدّظلّه : «من التمسّک بخبر عالیالسند تکون وسائطه ثلاثاً؛ لإثبات حجّیة مطلق خبر الثقة ولو کانت وسائطه کثیرة» فهو لو کان الخبر المزبور صحیح الدلالة کان متیناً، ولکنّک عرفت فیما مضیٰ: أنّه بحسب المعنیٰ أجنبیّ عن مسألة الخبر والأخبار، وأنّ التعلیل بقوله علیه السلام: «فإنّه الثقة المأمون» أو «إنّهما الثقتان المأمونان» یفید بالنسبة إلی الرجوع إلیٰ أهل النظر فی المسائل الشرعیّة وأخذ معالم الدین، فتدبّر جیّداً.
ثالثتها : أنّ القدر المتیقّن من الخبر الحجّة هو الخبر الحاکی للحکم، أو لموضوع ذی حکم، ویکون التعبّد به باعتبار التعبّد بمضمونه الذی هو الحکم، أو الموضوع ذو الحکم، والأخبار مع الواسطة ولو کانت واحدة، لا یتعبّد بالخبر الثانی إلاّ باعتبار التعبّد المتأخّر عنه بالواسطة، وکأنّه لا أثر للخبر فی مبدأ السلسلة، وإذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 523
فقد الأثر فقد التعبّد.
وفیه ما لا یخفیٰ؛ فإنّ فیما إذا لم یکن واسطة أصلاً، لا یکفی التعبّد بالصدور للعمل مادام لم ینضمّ إلیه سائر الاُصول، کأصالة الحقیقة، والجدّ، والجهة، فعلیه یکفی کون الخبر مع الواسطة، منتهیاً إلیٰ أن ینضمّ إلیه التعبّد الآخر.
هذا مع إمکان أن یقال: إنّ الخبر مع الواسطة الواحدة، قطعیّ احتجاج العقلاء به، وهو کان بمرأیٰ ومنظر، فعلیه لا وجه للإشکال رأساً.
هذا مع أنّه ربّما یقال: لا یجد العرف هناک إخبارات وتعبّدات، بل هنا إخبار مع الواسطة، فتأمل.
رابعتها : أی ومن الإشکالات العقلیّة، لزوم کون الحکم ـ الذی هو فی حکم المعلول بالنسبة إلی الموضوع وإن لم یکن معلولاً واقعاً؛ لأنّه معلول الجاعل، ولکنّه لا یمکن أن یستند إلیه الموضوع فی الوجود والتحقّق ـ محقّقاً لذلک الموضوع، وهو من المستحیل ولو فی الاُمور الاعتباریّة. ولو کان الخبر المحکیّ للسنّة خبراً وجدانیّاً فهو.
وأمّا مثل إخبار الکلینیّ، عن العطّار المخبر عن الحمیریّ، عن ابن إسحاق، عن أبی الحسن علیه السلام فهو وإن کان وجدانیّاً، إلاّ أنّ خبر العطّار لیس وجدانیّاً حتّیٰ یجب تصدیقه، ولا یقتضی أصل محرز وجود ذلک الخبر، بل قضیّة الأصل خلافه.
فعلیه یلزم أن یکون وجوب تصدیق خبر الکلینیّ، محقّقاً لخبر العطّار أوّلاً، ثمّ یترتّب علیه وجوب تصدیقه علیه، وهذا من المحال؛ لأنّ إیجاد الموضوع بالحکم المترتّب علیه، فرع وجود الحکم، مع أنّ الحکم فرع وجود الموضوع.
أو مع أنّ الحکم لا یکون متقدّماً علی الموضوع ولو رتبة، ویلزم هنا تقدّمه علیه، وهو محال؛ لکونه من الدور الصریح. هذا هو تقریب القوم فی تحریر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 524
الإشکال المذکور.
ویجوز أن یقال: إنّ هنا مشکلة غیر قابلة للحلّ؛ وهی أنّ خبر الکلینیّ وجدانیّ یترتّب علیه حکمه، وهو وجوب تصدیقه، وخبرَ العطّار لیس وجدانیّاً، ولا محرزاً بأصل، فکیف یمکن ترتّب الأثر علیه؟!
فیقال: إنّ خبر العطّار یثبت تعبّداً بإخبار الکلینیّ ووجوب تصدیقه، فمن وجوب تصدیق هذا الإخبار الوجدانیّ ـ لکونه فی کتاب «الکافی» المتواتر الواصل إلینا ـ یثبت تعبّداً خبر العطّار، وهذا مقدّم علی الأصل النافی، کما هو الواضح.
ویتوجّه إلیٰ حلّ هذه المشکلة الإشکال المذکور: وهو أنّ إثبات خبر العطّار بوجوب تصدیق خبر الکلینیّ، من إثبات موضوع الحکم بنفس ذلک الحکم، وهو ممنوع قطعاً.
خامستها : أنّ من الواضح الغنیّ عن البیان؛ أنّ إیجاب التصدیق لابدّ وأن یکون باعتبار أثر شرعیّ، کالحرمة أو الوجوب المحکیّ بقول العادل، أو باعتبار موضوع ذی أثر، فإذا أخبر الکلینیّ رحمه الله بوجوب کذا، أو أنّ زیداً عادل، أو أنّ حدّ الحرم وحدّ عرفات إلیٰ کذا، فهو من الإخبار المترتّب علیه الأثر، فیجوز إیجاب تصدیقه.
وأمّا فیما إذا کان یخبر عن خبر العطّار، فلا أثر یترتّب علیه بالضرورة إلاّ وجوب التصدیق المترتّب علیه بعد ثبوت خبره، فیلزم أن یکون وجوب تصدیق الکلینیّ، أثرَه وجوب التصدیق، وهو أوضح فساداً؛ للزوم کون الدلیل المتکفّل للتعبّد بالمخبر به، ناظراً إلیٰ نفسه، وأن یکون نفس وجوب التصدیق، أثرَ إیجاب التصدیق.
وبعبارة اُخریٰ: یلزم أن یکون التصدیق أثر إیجابه، وهذا ممنوع.
وغیر خفیّ: أنّه یمکن أن یجعل الإشکال المذکور أیضاً حلاًّ للإشکال الآخر:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 525
وهو أنّه لابدّ وأن یکون فی کلّ مورد یجب تصدیق خبر العادل من أثر، ولا أثر فی الإخبار الواسطة.
وینحلّ ذلک: بأنّ أثره وجوب التصدیق.
ویتوجّه إلیه: لزوم کون الوجوب المذکور أثراً لنفسه، فیبقی الإشکال المزبور بلا حلّ، فتدبّر.
ثمّ إنّه غیر خفیّ: أنّ هذین الإشکالین یستوعبان الإشکال علیٰ تمام السلسلة؛ لأنّ خبر الکلینیّ سلیم عن الإشکال الأوّل دون الثانی، وخبر ابن إسحاق سلیم عن الإشکال الثانی دون الأوّل.
نعم، إذا استقرّ الإشکال الأوّل، یلزم سقوط خبر الکلینی أیضاً ولو کان وجدانیّاً. کما إذا استقرّ الإشکال الثانی، لا یترتّب الأثر علیٰ إخبار ابن إسحاق أیضاً. فبین الإشکالین فرق من هذه الجهة.
کما یثبت الفرق بینهما بجهة مبدأ السلسلة ومنتهاها، وأنّ الإشکال الأوّل ناشئ من ناحیة موضوع قضیّة «صدّق خبر العادل» حیث یلزم أن یحقّق الحکم موضوع تلک القضیّة، والإشکالَ الآخر من محموله، حیث یلزم أن یکون التعبّد باعتبار نفس وجوب التصدیق.
سادستها : أنّه فیما کان الخبر مع الواسطة، یلزم حکومة دلیل علیٰ نفسه، أو اتحاد دلیل الحاکم والمحکوم؛ ضرورة أنّ الحکومة تارة: تکون بالتوسعة، واُخریٰ: بالتضییق، وفیما نحن فیه لو کان خبر العطّار ثابتاً بإخبار الکلینیّ الواجب تصدیقه، ثمّ بعد ثبوت خبره یکون هو أیضاً واجب التصدیق، یلزم أن یکون دلیل وجوب تصدیق خبر العادل، حاکماً علیٰ نفسه، وهو مستحیل؛ للمناقضة والخلف.
وإن شئت قلت: حکومة الأصل السببیّ علی المسبّبی، ربّما تکون فی الموضوعات، واُخریٰ: فی الأحکام، وعلیٰ کلّ تقدیر یلزم هناک أیضاً اتحاد دلیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 526
الحاکم والمحکوم، وفیما نحن فیه لا یلزم إلاّ فی الموضوعات.
وما فی عبارة العلاّمة النائینیّ رحمه الله من جعل الإشکال الخامس تحریراً آخر للإشکال الرابع، فی غیر محلّه، بل هو تقریر للإشکال الثالث، کما لا یخفیٰ، والأمر سهل.
وغیر خفیّ: أنّه أیضاً إشکال علیٰ حلّ مشکلة الخبر مع الواسطة: بأنّ التعبّد بالوجوب الثابت بأدلّة حجّیة خبر الواحد، کافٍ ولو کان وجوباً طریقیّاً إمضائیّاً. ویتوجّه إلیه: لزوم کون الدلیل حاکماً علیٰ نفسه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 527