المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الخاتمة : فیما هو التحقیق فی ألفاظ المعاملات

الخاتمة فیما هو التحقیق فی ألفاظ المعاملات

‏ ‏

‏وتنقیح ذلک یحتاج إلیٰ ذکر مقدّمات :‏

‏ ‏

المقدّمة الاُولیٰ :

‏ ‏

‏المحتملات التی مرّت سابقاً کانت کثیرة‏‎[1]‎‏، ولکن عدم وضع الألفاظ لبعضها‏‎ ‎‏ممّا لا شبهة فیه؛ ضرورة أنّ النقل والانتقال ـ بمعنیٰ مالکیّة البایع للثمن، ومالکیّة‏‎ ‎‏المشتری للمثمن ـ لیس البیع حقیقة؛ لأنّه اعتبر سبباً أو موضوعاً لذلک، وهذا هو‏‎ ‎‏أثره وحکمه.‏

وأیضاً :‏ نفس ألفاظ الإیجاب والقبول لیست بیعاً، ولا جزء البیع؛ بأن یکون‏‎ ‎‏حقیقة البیع تلک الألفاظ بما لها من المعانی، لأنّ حقیقة البیع تعتبر باقیة ولذلک تقبل‏‎ ‎‏الإقالة والفسخ، وتلک الألفاظ متصرّمة وفانیة بوجه، فهی خارجة عن حقائق‏‎ ‎‏المعاملات.‏

‏فیبقی الکلام حول احتمالین :‏

أحدهما :‏ کونها موضوعة للمعانی الإنشائیّة الحاصلة من تلک الألفاظ؛ وهی‏‎ ‎‏ذوات الأسباب، أو هی ذوات الموضوعات، لا الأسباب بعناوینها، ولا الموضوعات‏‎ ‎‏بما هی موضوعة للحکم؛ حتّیٰ لایمکن التخلّف بینها وبین الأثر.‏

ثانیهما :‏ کون الموضوع له السبب أو الموضوع، بما هو السبب وبما هو‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 295
‏الموضوع؛ حتّیٰ لایکون المتخلّف منه الأثر بیعاً حقیقة.‏

‏وإلی ذلک یرجع قول المشهور: «بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعات‏‎ ‎‏للمسبّبات»‏‎[2]‎‏ فإنّ المراد من «المسبّب» هو المنشأ بالألفاظ، لا الأثر، وقالوا: «إنّ‏‎ ‎‏أمر المسبّبات دائر بین الوجود والعدم»‏‎[3]‎‏ فکأنّهم یعتقدون أنّ حقیقة المعاملات؛‏‎ ‎‏هی المعانی الإنشائیّة التی یترتّب علیها الآثار المطلوبة، والأغراض والمقاصد.‏

فتحصّل :‏ أنّ الأمر دائر بین الاحتمالین، ولا مانع من الالتزام بکلّ واحد منهما‏‎ ‎‏عقلاً وثبوتاً.‏

إن قلت :‏ کون الموضوع له ذات السبب، ممّا لا إشکال فیه ثبوتاً، بخلاف ما‏‎ ‎‏لو کان عنوان «السبب» للزوم کون الأثر داخلاً فی ماهیّة المعاملة، لأنّها بإطلاقها إذا‏‎ ‎‏لم تکن موضوعة، فلابدّ وأن تتقید بأثره، وهو ممتنع عقلاً.‏

قلت :‏ لا معنیٰ للامتناع فی الوضع، وما هو الممتنع هو تقیّد العلّة بالمعلول فی‏‎ ‎‏العلّیة. هذا أوّلاً.‏

وثانیاً :‏ الواضع یلاحظ الماهیّة، ویعرّفها فی مقام الوضع لها: بالتی تکون کذا،‏‎ ‎‏فیلزم التقیّد من غیر إشکال، فلاتغفل.‏

لایقال :‏ لایعقل کون الموضوع له الأمر الباقی والمعنی الإنشائیّ الثابت فی‏‎ ‎‏اُفق الاعتبار؛ لأنّه معلول الأمر المتصرّم، ولابدّ من السنخیّة بین العلّة والمعلول، فإذا‏‎ ‎‏لم یکن المعنی الإنشائیّ بیعاً، فلایکون عنوان «السبب» أیضاً بیعاً؛ لأنّه هو معلول‏‎ ‎‏تلک الألفاظ، فلایبقیٰ مورد لأن یکون موضوعاً لتلک الألفاظ.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 296
لأنّا نقول :‏ لیست الألفاظ أسباباً تکوینیّة حتّیٰ یتوهّم ما قیل، بل هی الآلات‏‎ ‎‏الإیجادیّة للمعانی الاعتباریّة، أو هی المظهرات للمعتبرات العقلائیّة الذهنیّة، فعلیه‏‎ ‎‏یسقط التوهّم المشار إلیه، ویبقی الاحتمالان سلیمین عن الإشکال فی مرحلة الثبوت.‏

‏ ‏

المقدّمة الثانیة :

‏ ‏

‏لا شبهة فی أنّ جمیع الاعتباریّات ـ شرعیّة کانت، أو عرفیّة ـ تابعة لمصالح،‏‎ ‎‏ولکنّها لیست داخلة فی حدود القوانین والأوامر والنواهی، بل هی متقدّمة علی‏‎ ‎‏الأمر والجعل ذهناً، وتکون علّة غائیّة، ومتأخّرة عن المأمور به وجوداً وخارجاً.‏

مثلاً :‏ لابدّ من لحاظ الأثر فی إیجاب الصلاة؛ وهو ‏«قربان کلّ تقیّ»‎[4]‎‏ ولکنّه‏‎ ‎‏لیس داخلاً فی حدود الأمر، بل هو متقدّم علی الأمر، وداخل فی سلسلة العلل،‏‎ ‎‏ومتأخّر عن المأمور به، وداخل فی سلسلة المعالیل التکوینیّة القهریّة. ففی هذه‏‎ ‎‏الاُمور الاعتباریّة، لم یعتبر الصلاة سبباً لأمر، ولا موضوعاً لأثر.‏

‏ولکن من المعتبرات العرفیّة والشرعیّة، ما هی ذات المصالح والآثار القهریّة،‏‎ ‎‏کحفظ النظام المترتّب علیها، مع عدم کونه داخلاً فی الاعتبار؛ أی لایعتبر البیع سبباً‏‎ ‎‏لحفظ النظام، ولکن قد یکون الأثر القهریّ، داخلاً فی اعتبار متقدّم علیٰ ذلک الأثر‏‎ ‎‏الذی هو الاعتبار الآخر، وذلک مثل المعاملات، فإنّ هذه الماهیّات اعتباریّات،‏‎ ‎‏ولیس نظر المعتبرین إلیٰ تلک الماهیّات مطلقاً، بل نظرهم إلیها لأجل التوسّل بها إلی‏‎ ‎‏الاعتبار الآخر؛ وهو تبادل الملکیّة، وحصول النقل والانتقال، ولذلک یعتبرون البیع‏‎ ‎‏سبباً للنقل والانتقال بنحو الکلّی.‏

‏ولیس معنیٰ ذلک؛ أنّهم واقفون علیٰ کرسیّ القانون، ویضعون هذه الاُمور‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 297
‏الاعتباریّة، بل معناه أنّ ما حصل عندهم فعلاً ـ بعد الارتکازات التی تولّدت منذ‏‎ ‎‏بدایة حضارة البشر إلیٰ یومنا هذا ـ هو أنّهم یعتبرون تلک الماهیّات أسباب النقل،‏‎ ‎‏کما مضیٰ تفصیله مراراً‏‎[5]‎‏.‏

فبالجملة :‏ فرق واضح بین باب العبادات والمعاملات؛ فإنّ العبادات لاتعتبر‏‎ ‎‏لأمر آخر اعتباریّ ملحوظ، والمعاملات اعتبرت موضوعات أو أسباباً لاعتبار آخر‏‎ ‎‏مترتّب علیها قهراً، ملحوظ حال اعتبار الأمر الأوّل.‏

‏ ‏

المقدّمة الثالثة :

‏ ‏

‏الاُمور الاعتباریّة ـ حدوثاً وبقاءً، سعةً وضیقاً ـ متقوّمة بالحاجة التی تمسّ‏‎ ‎‏إلیها؛ فإنّ الإنسان فی بدو المعیشة، ما کان یحتاج إلی التبادل، ثمّ بعد الحاجة إلیه‏‎ ‎‏توسّل إلی اعتبار المبادلة، وهکذا إلی أن انتهی الأمر إلیٰ زماننا الذی ارتقیٰ نهایته،‏‎ ‎‏ووصلت الاعتبارات غایتها؛ لشدّة الاحتیاج فی النظام إلیها.‏

‏ومن تلک الاعتبارات؛ ماهیّات المعاملات، فإنّها بدواً اعتبرت بین الأعیان‏‎ ‎‏الخارجیّة، ثمّ بعد مساس الحاجة إلی اعتبارها فی الکلّیات، استعملت ألفاظها‏‎ ‎‏مجازاً فی الأمر الحادث، ثمّ صارت حقیقة فیه؛ لمشابهته مع الموضوع له الأوّل فی‏‎ ‎‏جهة الوضع.‏

‏ولا شبهة فی أنّ المعاملات فی بدو الوجود والتأسیس، کانت علیٰ نعت‏‎ ‎‏المؤثّر الفعلیّ؛ لعدم الحاجة إلی اعتبار ذاتها فارغةً من أثر، فما اعتبر أوّلاً وبالذات؛‏‎ ‎‏هی الماهیّة الموضوعة للحکم بحصول النقل والانتقال، أو ماهیّة اعتبرت سبباً‏‎ ‎‏لذلک؛ علی الاحتمالین فی تلک المسألة، وسیظهر ـ بعد توضیح الحقّ فی هذه‏‎ ‎‏المسألة ـ ماهو التحقیق فیها، فانتظر.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 298
‏فعلیٰ ما تقرّر، لابدّ من وجود الأغراض والمقاصد حتّیٰ تمسّ الحاجة إلیٰ‏‎ ‎‏توسیع الاعتبار الأوّل فکما أنّ الاعتبار الأوّل یوسع فی بیع الکلّی لإمساس الحاجة‏‎ ‎‏إلیه ولایتمّ الغرض والمقصود إلاّ بتلک التوسعة، کذلک لابدّ من تلک الأغراض‏‎ ‎‏والمقاصد حتّیٰ یلزم اعتبار کون البیع هو ذات المؤثّر دون عنوانه وإثبات ذلک فی‏‎ ‎‏غایة الإشکال.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 299

  • )) تقدّم فی الصفحة 229 ـ 232 .
  • )) کفایة الاُصول: 49، بدائع الأفکار (تقریرات المحقق العراقی) الآملی 1: 138، منتهی الاُصول 1: 66 ـ 67، مناهج الوصول 1: 169.
  • )) کفایة الاُصول: 49، أجود التقریرات 1: 48، مناهج الوصول 1: 169.
  • )) الکافی 3 : 265 / 6 ، وسائل الشیعة 4 : 43 ، کتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ، الباب 12، الحدیث 1.
  • )) تقدّم فی الصفحة 125 و 231 ـ 232 .