الخاتمة فیما هو التحقیق فی ألفاظ المعاملات
وتنقیح ذلک یحتاج إلیٰ ذکر مقدّمات :
المقدّمة الاُولیٰ :
المحتملات التی مرّت سابقاً کانت کثیرة، ولکن عدم وضع الألفاظ لبعضها ممّا لا شبهة فیه؛ ضرورة أنّ النقل والانتقال ـ بمعنیٰ مالکیّة البایع للثمن، ومالکیّة المشتری للمثمن ـ لیس البیع حقیقة؛ لأنّه اعتبر سبباً أو موضوعاً لذلک، وهذا هو أثره وحکمه.
وأیضاً : نفس ألفاظ الإیجاب والقبول لیست بیعاً، ولا جزء البیع؛ بأن یکون حقیقة البیع تلک الألفاظ بما لها من المعانی، لأنّ حقیقة البیع تعتبر باقیة ولذلک تقبل الإقالة والفسخ، وتلک الألفاظ متصرّمة وفانیة بوجه، فهی خارجة عن حقائق المعاملات.
فیبقی الکلام حول احتمالین :
أحدهما : کونها موضوعة للمعانی الإنشائیّة الحاصلة من تلک الألفاظ؛ وهی ذوات الأسباب، أو هی ذوات الموضوعات، لا الأسباب بعناوینها، ولا الموضوعات بما هی موضوعة للحکم؛ حتّیٰ لایمکن التخلّف بینها وبین الأثر.
ثانیهما : کون الموضوع له السبب أو الموضوع، بما هو السبب وبما هو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 295
الموضوع؛ حتّیٰ لایکون المتخلّف منه الأثر بیعاً حقیقة.
وإلی ذلک یرجع قول المشهور: «بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعات للمسبّبات» فإنّ المراد من «المسبّب» هو المنشأ بالألفاظ، لا الأثر، وقالوا: «إنّ أمر المسبّبات دائر بین الوجود والعدم» فکأنّهم یعتقدون أنّ حقیقة المعاملات؛ هی المعانی الإنشائیّة التی یترتّب علیها الآثار المطلوبة، والأغراض والمقاصد.
فتحصّل : أنّ الأمر دائر بین الاحتمالین، ولا مانع من الالتزام بکلّ واحد منهما عقلاً وثبوتاً.
إن قلت : کون الموضوع له ذات السبب، ممّا لا إشکال فیه ثبوتاً، بخلاف ما لو کان عنوان «السبب» للزوم کون الأثر داخلاً فی ماهیّة المعاملة، لأنّها بإطلاقها إذا لم تکن موضوعة، فلابدّ وأن تتقید بأثره، وهو ممتنع عقلاً.
قلت : لا معنیٰ للامتناع فی الوضع، وما هو الممتنع هو تقیّد العلّة بالمعلول فی العلّیة. هذا أوّلاً.
وثانیاً : الواضع یلاحظ الماهیّة، ویعرّفها فی مقام الوضع لها: بالتی تکون کذا، فیلزم التقیّد من غیر إشکال، فلاتغفل.
لایقال : لایعقل کون الموضوع له الأمر الباقی والمعنی الإنشائیّ الثابت فی اُفق الاعتبار؛ لأنّه معلول الأمر المتصرّم، ولابدّ من السنخیّة بین العلّة والمعلول، فإذا لم یکن المعنی الإنشائیّ بیعاً، فلایکون عنوان «السبب» أیضاً بیعاً؛ لأنّه هو معلول تلک الألفاظ، فلایبقیٰ مورد لأن یکون موضوعاً لتلک الألفاظ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 296
لأنّا نقول : لیست الألفاظ أسباباً تکوینیّة حتّیٰ یتوهّم ما قیل، بل هی الآلات الإیجادیّة للمعانی الاعتباریّة، أو هی المظهرات للمعتبرات العقلائیّة الذهنیّة، فعلیه یسقط التوهّم المشار إلیه، ویبقی الاحتمالان سلیمین عن الإشکال فی مرحلة الثبوت.
المقدّمة الثانیة :
لا شبهة فی أنّ جمیع الاعتباریّات ـ شرعیّة کانت، أو عرفیّة ـ تابعة لمصالح، ولکنّها لیست داخلة فی حدود القوانین والأوامر والنواهی، بل هی متقدّمة علی الأمر والجعل ذهناً، وتکون علّة غائیّة، ومتأخّرة عن المأمور به وجوداً وخارجاً.
مثلاً : لابدّ من لحاظ الأثر فی إیجاب الصلاة؛ وهو «قربان کلّ تقیّ» ولکنّه لیس داخلاً فی حدود الأمر، بل هو متقدّم علی الأمر، وداخل فی سلسلة العلل، ومتأخّر عن المأمور به، وداخل فی سلسلة المعالیل التکوینیّة القهریّة. ففی هذه الاُمور الاعتباریّة، لم یعتبر الصلاة سبباً لأمر، ولا موضوعاً لأثر.
ولکن من المعتبرات العرفیّة والشرعیّة، ما هی ذات المصالح والآثار القهریّة، کحفظ النظام المترتّب علیها، مع عدم کونه داخلاً فی الاعتبار؛ أی لایعتبر البیع سبباً لحفظ النظام، ولکن قد یکون الأثر القهریّ، داخلاً فی اعتبار متقدّم علیٰ ذلک الأثر الذی هو الاعتبار الآخر، وذلک مثل المعاملات، فإنّ هذه الماهیّات اعتباریّات، ولیس نظر المعتبرین إلیٰ تلک الماهیّات مطلقاً، بل نظرهم إلیها لأجل التوسّل بها إلی الاعتبار الآخر؛ وهو تبادل الملکیّة، وحصول النقل والانتقال، ولذلک یعتبرون البیع سبباً للنقل والانتقال بنحو الکلّی.
ولیس معنیٰ ذلک؛ أنّهم واقفون علیٰ کرسیّ القانون، ویضعون هذه الاُمور
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 297
الاعتباریّة، بل معناه أنّ ما حصل عندهم فعلاً ـ بعد الارتکازات التی تولّدت منذ بدایة حضارة البشر إلیٰ یومنا هذا ـ هو أنّهم یعتبرون تلک الماهیّات أسباب النقل، کما مضیٰ تفصیله مراراً.
فبالجملة : فرق واضح بین باب العبادات والمعاملات؛ فإنّ العبادات لاتعتبر لأمر آخر اعتباریّ ملحوظ، والمعاملات اعتبرت موضوعات أو أسباباً لاعتبار آخر مترتّب علیها قهراً، ملحوظ حال اعتبار الأمر الأوّل.
المقدّمة الثالثة :
الاُمور الاعتباریّة ـ حدوثاً وبقاءً، سعةً وضیقاً ـ متقوّمة بالحاجة التی تمسّ إلیها؛ فإنّ الإنسان فی بدو المعیشة، ما کان یحتاج إلی التبادل، ثمّ بعد الحاجة إلیه توسّل إلی اعتبار المبادلة، وهکذا إلی أن انتهی الأمر إلیٰ زماننا الذی ارتقیٰ نهایته، ووصلت الاعتبارات غایتها؛ لشدّة الاحتیاج فی النظام إلیها.
ومن تلک الاعتبارات؛ ماهیّات المعاملات، فإنّها بدواً اعتبرت بین الأعیان الخارجیّة، ثمّ بعد مساس الحاجة إلی اعتبارها فی الکلّیات، استعملت ألفاظها مجازاً فی الأمر الحادث، ثمّ صارت حقیقة فیه؛ لمشابهته مع الموضوع له الأوّل فی جهة الوضع.
ولا شبهة فی أنّ المعاملات فی بدو الوجود والتأسیس، کانت علیٰ نعت المؤثّر الفعلیّ؛ لعدم الحاجة إلی اعتبار ذاتها فارغةً من أثر، فما اعتبر أوّلاً وبالذات؛ هی الماهیّة الموضوعة للحکم بحصول النقل والانتقال، أو ماهیّة اعتبرت سبباً لذلک؛ علی الاحتمالین فی تلک المسألة، وسیظهر ـ بعد توضیح الحقّ فی هذه المسألة ـ ماهو التحقیق فیها، فانتظر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 298
فعلیٰ ما تقرّر، لابدّ من وجود الأغراض والمقاصد حتّیٰ تمسّ الحاجة إلیٰ توسیع الاعتبار الأوّل فکما أنّ الاعتبار الأوّل یوسع فی بیع الکلّی لإمساس الحاجة إلیه ولایتمّ الغرض والمقصود إلاّ بتلک التوسعة، کذلک لابدّ من تلک الأغراض والمقاصد حتّیٰ یلزم اعتبار کون البیع هو ذات المؤثّر دون عنوانه وإثبات ذلک فی غایة الإشکال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 299