التحقیق فیما هو جامع الأعمّی
إذا عرفت ذلک کلّه، فاستمع لما یوحیٰ إلیک من عبدک؛ فقد علمت فیما سبق منّا إلیٰ هنا: أنّ دائرة البحث فی هذه المسألة أوسع ممّا ظنّه الأصحاب، فلابدّ من النظر إلیٰ ماهو الجامع بالنسبة إلیٰ جمیع الألفاظ الموضوعة علیٰ سبیل الاشتراک المعنویّ للمعانی المختلفة أفرادها ومصادیقها اختلافاً فاحشاً من جمیع الجهات والمقولات.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 246
وأیضاً علمت : أنّ قصر النظر فی مفهوم «الصحة والفساد» غیر جائز، بل الجهة المبحوث عنها، غیر راجعة إلی فهم مفهوم هاتین اللفظتین ؛ فإنّ الصحیحیّ یرید اثبات کون المعانی لیست مطلق الطبیعة، بل هی الطبیعة الجامعة للآثار المترقّیة منها، وما هو الفاقد لها یعدّ منها مجازاً ومشابهة ، سواء اتصفت تلک الطبیعة بعنوان «الصحیح» کما فی طائفة من الموضوعات، أو اتصفت بعنوان «السلامة» کما فی اُخری منها، أو بعنوان «التمامیّة» کما فی ثالثة منها .
وأیضاً علمت : أنّ البحث حیث یکون لغویّاً، فلا معنیٰ لکون المراد من «الصحّة والفساد» فیه ـ فرضاً ـ هی الصحّة الشرعیّة، أو الأعمّ منها ومن الصحّة والفساد العرفیّین، بل النظر مقصور إلیٰ ماهو مفهومهما، ومفهوم «السلامة والعیب» ومفهوم «التمامیّة والنقصان» فی محیط العرف.
فما یظهر من الوالد ـ مدّظلّه : من أنّ الصحّة والفساد فیما نحن فیه لیسا حیثیین؛ لأنّ الصلاة لاتتّصف بالصحّة الفعلیّة من حیث، بل هی موصوفة بأحد الوصفین بالفعل، ولاتوصف بالآخر، وإذا وجدنا أنّها مع فقد الشرط تکون فاسدةً، فیتعیّن القول بالأعمّ، ویلزم تصویر الجامع، ویسقط احتمال القول بالأخصّ؛ لما عرفت من خروج بعض الشرائط عن محلّ النزاع، فی غیر مقامه؛ ضرورة أنّ الطبیعة الفاقدة للشرط توصف بالفساد، إلاّ أنّه توصیف شرعیّ إذا کان ذلک الشرط شرعیّاً، وإذا کان شرطاً عرفیّاً فللأخصّی دعوی المجازیّة، کما ادعاها فیما کان فاسداً للإخلال بالأجزاء.
إن قلت : بناءً علیٰ هذا یلزم خروج طائفة من الشرائط عن محلّ النزاع، مع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 247
أنّ مقتضیٰ ما مرّ دخول مطلق الشرائط فیه.
قلت : ما ذکرناه هناک هو أمر أدقّ ، وإجماله أنّ الجهة المبحوث عنها لیست الجزء، ولا الشرط، بل هی أنّ الألفاظ هل تکون معانیها وما هو الموضوع لها هی الطبیعة المرسلة، أم هی الطبیعة المستجمعة لما یترقّب منها، وینتظر من الآثار والخواصّ الدنیویّة والاُخرویّة؟
فعندئذٍ تدخل الشرائط فی محلّ النزاع؛ إذا کانت لها الدخالة فی ذلک عرفاً، أو استکشفت بالشرع فصدّقها العرف، کما ربّما یستکشف بالطبّ بعض خواصّ للبطّیخ، فإنّه عند فقده ذلک الأثر لایکون بطّیخاً عند الأخصّی، فلاتغفل، ولاتخلط.
فإذ قد تبیّن ذلک کلّه فاعلم : أنّ الماهیّات علیٰ صنفین : أصیلة، وغیر أصیلة:
فالماهیّات الأصیلة ـ مرکّبة کانت، کالموالید الثلاثة : بالجمادات، والنباتات، والحیوانات، أو بسیطةً، کالأعراض، والمقولات ـ کلّها ذات أجناس وفصول، ویکون الجامع فیها معلوماً؛ لأنّه قابل للذکر بعنوانه، أو بالإیماء والإشارة؛ بأخذ العناوین اللاّزمة فصولاً، کما هو الأکثر، خصوصاً علی القول: بأنّ حقائق الفصول هی الوجودات الخاصّة.
فما هو الموضوع له مثلاً «الذهب» و «الفضّة» الجسم الجامد الذی له خاصیّة کذا، ولون کذا، وما هو الموضوع له «الحنطة» و «الشعیر» مثل ذلک، وهکذا فی الحیوانات.
ویترتّب علیٰ هذه، الثمرة العملیّة الفقهیّة؛ مثلاً الأدلّة المتکفّلة للکفّارات فی تروک الحجّ، إذا کانت مطلقة، ولم یرد مقیّد لها، یؤخذ بإطلاقها، ویطرح الشکّ فی کون الشاة سمینةً أو سالمةً أو غیر ذلک بها؛ لأنّ الموضوع له «الشاة» أعمّ من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 248
السالمة والمریضة، وهکذا فی الغلاّت والنقدین وغیر ذلک.
ومن هنا یعلم : أنّ الأوفق بالتحقیق أعمیّة مصبّ البحث فی هذه المسألة، ولا یقصر علیٰ ألفاظ العبادات.
وأمّا الماهیّات غیر الأصیلة، فهی مثلها ذات بسائط، ومرکّبات:
فالبسائط منها، ما هو المعنی الواحد القائم بالواحد العرفیّ، ولا یکون المعنی المقوّم داخلاً فی الموضوع له، وهذا مثل الأوانی والظروف؛ فإنّ الألفاظ الموضوعة لها بجامع واحد؛ وهی الهیئة الخاصّة اللا بشرط صغریٰ وکبریٰ إلیٰ حدّ معیّن، ولا تکون مادّة هذه المسمّیات دخیلة فی الاسم، کما تریٰ.
وأمّا المرکّبات منها، کالدار والحمّام والسوق، وجمیع المخترعات الیومیّة؛ من السیّارة والطیّارة والسفینة الفضائیّة، فإنّ المادّة الخاصّة غیر دخیلة فی الموضوع له، بل لو أمکن إیجاد الهیئة القائمة بها بدونها، یصدق علیها الأسماء، وهذا شاهد علی أنّ المسمّیٰ هی الهیئة الملحوظة بلحاظ خاصّ فی جهة، وتکون هی اللا بشرط من الجهات الکثیرة الاُخریٰ.
فالأجزاء القائمة بها البیت والحمّام، فانیة فی مقام التسمیة فی تلک الهیئة، ولایعقل فی هذا اللحاظ النظر إلیها؛ لأنّها عند النظر إلیها تکون جزءً مبایناً لها، وخارجةً عنها، وتضاف إلیها، فیقال: «هذا رأس (القلیان)» أو «هذا وسطه» فما هو الموضوع له (للقلیان) هی الهیئة والشکل المعیّن اللابشرط صغری وکبری، سواداً وبیاضاً، صحیحاً وسالماً، فلو لم یمکن الاستیفاء منه للتدخین فهو لایضرّ؛ لأنّ ماهو الجامع هو الشکل المحفوظ فی الحالتین.
فتحصّل : أنّ فی جمیع المرکبّات التألیفیّة غیر الحقیقیّة، یکون الجامع الشکل والهیئة، وقد یسأل الصبیان: بـ «أنّ (القلیان) ماهو؟» حتّیٰ یقال: «هذا رأس (القلیان) وهذا جسد (القلیان) وهذا ماؤه وناره ودخانه» وهکذا، مع أنّ (القلیان) لیس أمراً
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 249
وراء تلک الأجزاء.
ومن العجب ظنّ بعض المتفلسفین فی عصرنا ـ المسمّیٰ بـ «الفیلسوف الأکبر الإسلامیّ» ـ أنّ أوّل الدلیل علیٰ وجود النفس وراء البدن ما یقال: بـ «أنّ هذه یدی، وهذه رجلی، وهذا رأسی» فمن هو المتکلّم بهذه الکلمات؟! وما هذا إلاّ الروح!! ولم یتفطّن هذا المرء إلیٰ إطلاق قوله: «ونفسی وروحی» نقضاً، وإلیٰ ما ذکرنا فی (القلیان) مع بداهة عدم وجود الأمر البسیط المجرّد وراء هذه الأجزاء المضافة إلیه.
وحلّ الشبهة ما عرفت : من أنّ ماهو الموضوع له هی الهیئة والشکل، وتلک الأجزاء غیر منظور إلیها فی التسمیة، بل غیر داخلة فیها، والإضافة إلیه لکونها موضوعاً للشکل والهیئة التی هی الجامع حقیقة.
ومن التدبّر فی أمثال هذه الاُمور ونظائرها، یسهل الاطلاع علیٰ ما هو الجامع فی المرکّبات الاعتباریّة، کالعبادات المرکّبة من الهیئات الخاصّة، ومنها الصلاة، فإنّ الجامع فیها لیس إلاّ الهیئة الکاملة المشتملة علی الهیئات الجزئیّة، کهیئة القیام والرکوع والسجود والقعود، من غیر لزوم جمیع هذه الهیئات، بل یکفی عدّة منها، وإن فقدت بعضها یبقی المسمّیٰ، کما عرفت فی مثال (القلیان) فإنّ رأسه وإن کان داخلاً بحسب الهیئة الخاصّة ـ فی تلک الهیئة الکاملة المشتملة علی الهیئات الجزئیّة الفانیة فی تلک الهیئة الکلّیة، ولکنّه مع ذلک لیس دخیلاً ومقوّماً؛ لبقاء الجامع بدونه.
نعم، مع فقدان الرأس والوسط لایبقیٰ، والصلاة مثله؛ فإنّه بدون القیام الرکوع بأبدالهما العرفیّة، لیس صلاة.
فما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وإن قرب من التحقیق، إلاّ أنّه یلزم علیه الالتزام: بأنّ ماهو الجامع هنا أمر لا مانع من تردّده بین الاُمور، وقد تحاشیٰ عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 250
ذلک برهاناً: بأنّ الإهمال فی تجوهر الذات ممتنع، وقد مضیٰ وجه الخلل فیه بالخلط بین الحقائق والاعتباریّات، فتدبّر.
إن قلت : بناءً علیه یلزم الالتزام بخروج الأفراد الفاقدة للقیام والأبدال العرفیّة؛ فإنّ الإیماء لیس ـ عرفاً ـ بدلاً من الرکوع والسجود، وهکذا القعود.
قلت : لا منع من ذلک؛ لأنّ ما هو المقصود ـ کما یأتی فی ذکر ثمرة البحث ـ یحصل بذلک أیضاً؛ ضرورة ثبوت الفرق بین إنکار الجامع والالتزام بالمجازیّة المطلقة، وإثبات الجامع بین الأفراد المتعارفة المتقاربة وإثبات المجازیّة فی الجملة؛ فإنّ التمسّک بالإطلاق فی کثیر من المواقف ممکن عندئذٍ.
نعم، فیما شکّ فی شیء، واحتمل واقعاً دخالته فی المسمّیٰ، فعندئذٍ لایمکن التمسّک بالإطلاق، ولکنّه مجرّد احتمال لا واقعیّة له، فانتظر واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 251